عند مدخل شارع الحمرا، وفور عبور مصرف لبنان، إشارة حمراء يزدحم عندها السير معظم ساعات النهار. حتى إنّ أغلب سائقي سيارات الأجرة يرفضون مواصلة طريقهم، ويفضّلون الالتفاف شمالاً نحو حديقة الصنائع. هكذا، يترجل كثيرون من الركّاب لمتابعة الرحلة سيراً على الأقدام من دون أن يكترثوا كثيراً للقاعة الزجاجية. لفترة طويلة، كانت صالة العرض تلك صامدة بإحدى واجهتها المطلة على الشارع، حيث تجد صوراً لمواقع أثرية من بعلبك، وعنجر، وبيبلوس، وغيرها من المدن اللبنانية مع عبارة باللغة الإنكليزية: «استمتعوا بالتاريخ في لبنان». فيما كانت تحتل الواجهات الأخرى مانيكانات بالزي الفولكلوري اللبناني كالطرطور، والشروال. منذ أسبوع فقط، طرأت مداخلة فنية راحت تستوقف المارة. ما زالت تلك الوجهات في مكانها، لكنّها أفسحت مجالاً لـ«17,000» مخطوف ومفقود خلال الحرب الأهلية اللبنانية منذ 1975 حتى 1990. هكذا احتل معرض رين محفوظ ثلاث واجهات، كالسوسة التي تنخر لنفسها مكاناً فتستقر لبرهة وسط واجهة تتباهى بلبنان وبتاريخه «العريق».
في الواجهة الأولى، اختارت محفوظ أن تشكل جدارية مؤلفة من صور شمسية للمخطوفين. تكتظ الجدارية بوجوه كثيرة. إنّها وجوه صامدة في زمن الأبيض والأسود. زمن توقف لحظة خروج هؤلاء الأشخاص من بيوتهم إلى مصير مجهول حتى اليوم. أما ما بقي منهم، فهو ابتسامة خجولة رسمت على وجه كل منهم لحظة التقاط الصورة. ابتسامة أبت أن تنسدل رغم الخطف وربما القتل الذي تعرض له صاحبها، بل تطالبنا بأن نساعدها كي تعود إلى حضن عائلتها، أو أن ترقد بسلام قرب أجدادها.
في الواجهة الثانية، تعرض محفوظ صوراً التقطتها لجرافات. تلك الآلات التي تحفر المقابر الجماعية حيث رميت أجساد كثيرة باحتقار داخلها، قبل أن يتاح لها لتوديع أحبائها. هي الجرافات نفسها التي أعادت طمر الحفرة من دون أن تستطيع طمر أسى كل من لا يزال ينتظر عودة مفقوده. تركّز الصور الفوتوغرافية على أسنان تلك الجرافات التي غرزت جرحاً عميقاً في إنسانية المجتمع اللبناني، جرح ما زال ينزف حتى اليوم. يقال إنّ الحرب الأهلية انتهت عام ١٩٩٠، وتلك الجرافات نفسها أعادت إعمار بيروت والحجر. لكن ما زال هناك 17 ألف عائلة في لبنان لا تستطيع أن تنسى حرباً خطفت أحد أفرادها من دون أن تعرف مصيره حتى اليوم. في دولة يجاهد فيها أهالي المخطوفين عبثاً لفتح المقابر الجماعية التي حدد مكان بعضها، أو لرفع الغطاء السياسي عن بعض الخاطفين ومجرمي الحرب، لا يبقى لهؤلاء سوى بعض الأغراض الشخصية للمفقود كي يتمسكوا بها. هكذا امتلأت الواجهة الثالثة بمكعبات من النايلون تحتوي على ثياب المخطوفين التي خلفوها وراءهم، وما زال يحتفظ بها أهلهم، كآخر أثر حسيّ يمتلكونه. على تلك الواجهة، كتبت أيضاً عبارة «بس أكيد باقيلنا منن شي». بذلك، نجح خيار موقع المعرض واقتصاره على الواجهة في تشكيل تواصل مباشر مع كل من يصادف مروره من تلك المنطقة المزدحمة. الموضوع يطاول جميع فئات المجتمع اللبناني، ويجب ألا ينحصر بجمهور معرض أو بمدعوين إلى صالة عرض مقفلة. أما الميزة التي يضيفها سياق المكان، فتتمثل في مخلّفات الواجهات القديمة للقاعة الزجاجية وخطاب وزارة السياحة. معرض «17000» يضيف إلى عبارة «استمتعوا بالتاريخ في لبنان» المحاطة بصور المواقع الأثرية، صوراً لـ 17 ألف مختفٍ منذ الحرب، مسطراً بذلك فصلاً من تاريخ لم ينطو، لكنّ وزارة السياحة والدولة التي تمثّلها لم تشاءا قراءته. وفي الواجهة الأخرى، تجد «اللباس التقليدي» اللبناني الذي ما عاد يرتديه أحد إلا في حفلات التنكر، أو عندما تشارك ملكة جمال لبنان في المباريات العالمية. وإلى جانب ذلك اللباس التقليدي، أضافت رين محفوظ ثياباً تشبه الملابس التي يرتديها كل لبناني، لكن أصحابها منعوا من لبسها، لتصبح الأثر الوحيد الباقي لأهلهم. هكذا، عن قصد أو بمحض المصادفة، اقتحمت محفوظ الصورة التي تحاول وزارة السياحة تسويقها عن لبنان المفتخر بتاريخه القديم، والمتناسي تاريخه الحديث، فنجحت في فرض آثار جديدة، وقراءة أخرى محفوفة بالمرارة لعبارة «استمتعوا بالتاريخ في لبنان».
معرض «١٧٠٠٠»، معرض لرين محفوظ: لغاية اليوم ـــ القاعة الزجاجية لوزارة السياحة (الحمرا ــ بيروت) ـــ للاستعلام: 446497/01
معاً من أجل المفقودين
يمثّل «17000» جزءاً من مشروع جمعية «معاً من أجل المفقودين» التي تهدف إلى تعزيز الوعي بين الشباب حول قضية المختفين قسراً والمفقودين في لبنان ضمن مشروع التاريخ الشفهي الذي تهتم به الجمعية. بعد اتفاق الطائف، مارست الدولة اللبنانية سياسة النعامة في ما خصّ الحرب الأهلية، وأغلقت الباب على النقاشات العلنية حول القضية. اليوم، بعد مرور أكثر من 20 سنة على انتهاء الحرب، جاء الشباب الذي لا يعرف سوى القليل عن تلك المرحلة. لذلك اهتمت «معاً من أجل المفقودين» بدعم من السفارة السويسرية في لبنان، بإشراك الشباب في تجميع التاريخ الشفهي، وخصوصاً من أهالي المخطوفين، فقام 30 شاباً بإجراء مقابلات مع أقارب الأشخاص المختفين. وقد نُسخت هذه المقابلات لترقيمها وأرشفتها، ما يضمن تواصل جيل من الشباب مع تاريخ بلده، إضافة إلى توفير فسحة لأقارب المختفين لإيصال أصواتهم والتعبير عن أنفسهم.