لم أحظَ بعد بلقاء الدكتور موسى البديري، لكنّني سمعت عنه الكثير من عارفيه وكلهم مجمعٌ على احترام عمله، ومحبته، ودوره الرائد في «جامعة بيرزيت». لذا، أدهشني ما قرأت (الأخبار 19/6/2012) عمّا يتعرض له البديري من حملات في الجامعة، ومفادها أنّ الرسوم التي علّقها على باب مكتبه تمثّل في نظر بعض الطلبة «إساءة إلى الإسلام». دعنا نتأمل قليلاً في هذا المفهوم، ما هي بالضبط الإساءة إلى الاسلام؟ وهل ثمة من مقاييس موضوعية لتعريف الإساءة؟ وماذا يقول الفكر الاسلامي ذاته حول الإساءة؟ وهل ثمة فرق فقهي بين الإساءة المتعمدة والإساءة غير المتعمدة؟
وهل يجوز لأي طرف كان أن يستخدم هذا المصطلح للهجوم على أي طرف آخر من دون أن يوضّح هذا الطرف ما هي الإساءة وما هي المعايير الدينية والأخلاقية التي استند إليها؟ لا جدال في أنّنا نعيش اليوم في خضم هجوم إعلامي كاسح يأتي في الغالب من الغرب (أوروبا، أميركا، إسرائيل) ويهدف إلى تشويه الدين الإسلامي والمجتمعات الإسلامية، بدءاً بالمراكز «الأكاديمية» في أفلام هوليوود، وهذا أمر لا داعي لتفصيله، خصوصاً أنّ لدينا كتابات أنور عبد الملك وإدوارد سعيد وغيرهما حول الموضوع.
هذا التشويه المتعمد يهدف إلى تأليب صانعي القرار في تلك الدول على الإسلام وتبرير التدخل في أمور العالم الإسلامي بعد أن تتم «شيطنته». وهذا التشويه المتعمد ليس إلا حلقة من حلقات الصراع بين الشرق والغرب، وردّ فعل تاريخي يخبو تارة ويثور طوراً منذ عصر الفتوحات العربية الإسلامية، وكان أملنا أن يضع عصر التنوير في الغرب حداً لهذا النمط في الإساءة، وقد نجح إلى حد ما في ذلك، غير أنّ عصر الرأسمالية اليوم ضخّ فيه قوالب جديدة من إساءات قديمة فنّدها كل من عبد الملك وسعيد.
هذه هي تاريخياً ما قد نسميه الإساءة الكبرى والمستمرة للإسلام والمسلمين التي يجب أن تتجه اليها أنظارنا في كل زمان ومكان في العالمين العربي والاسلامي، إذا أردنا أن نكمل الطريق التي شقّها عبد الملك وسعيد. والاستشراق الإسرائيلي يمثّل البؤرة الأخيرة للاستشراق الغربي التقليدي، إذ يزداد هذا الاستشراق حدة كلما ازدادت عزلة هذه الدولة المحتلة على الصعيد الدولي. الاستعلاء والعنصرية والنمطيّة والانتقائيّة والتشكيك في المصادر العربية والإسلامية كلها سمات واضحة تماماً في هذا الاستشراق، وكلها تمثّل إساءة «أكاديمية» متعمّدة للإسلام والعرب، أكرر، هذه هي الإساءة الكبرى المستمرة التي لا نوليها ما تستحق من اهتمام.
ونأتي إلى الدكتور البديري وإلى رسم «هل تتزوجني؟ ما اقدر الشرعية في كوكب كريبتون ما تسمح لي أخذ خامسة؟». كيف يسيء هذا الرسم للإسلام؟ قد يقال لنا إنّ الرسم يمثّل ما يؤخذ عموماً على الإسلام من أنّ شريعته حللت أربع زوجات، وهذا مصدر استهزاء دائم يستخدمه أعداء الاسلام قديماً وحديثاً للنيل منه ومن رسوله ومن سيرته، والى ما هنالك من أمور تركز على هاجس الإسلام بالأمور الجنسية. أما كوكب كريبتون فما هو الا رمز إلى أنّ المسلمين المتشددين موجودون على «كوكب آخر».
لو افترضنا جدلاً أنّ في هذه «اللائحة الاتهامية» ما قد يرضي أصحاب الحملة على البديري، ولو جزئياً، كيف لنا أن نرد على هذه الحملة بإخلاص وهدوء ومحبّة؟
يبدو لي أولاً أنّ الإساءة بمعناها الأخلاقي الواضح كما وردت أعلاه ليست حاضرة في هذا الرسم. فالكلام الوارد بين الرجل والمرأة لا يمكن أن يوصف بأنّه نص كامل المعنى والوضوح، بل هو أشبه بكلام مرموز مبهم قابل للتأويل على معيار يتأرجح بين الهزء والمديح، ولكلٍ منا أن يأخذه بأي اتجاه شاء، لكنه في مطلق الأحوال يخلو تماماً من الشتم الصريح أو الإساءة.
لكن لنفترض جدلاً أنّ الاستهزاء هو المقصود من وراء تلك الرسوم. فهل الاستهزاء والسخرية هما الإساءة؟ وماذا يقول كتاب الله في هذا الشأن؟ ثمة آيات عديدة تأتي على ذكر المستهزئين وتتوعدهم بالعقاب في الآخرة. لكنه تعالى يقول: «إنا كفيناك المستهزئين» (الحجر 95). وهذه الآية تلقي بظلالها على كل ما ورد عن الهزء والاستهزاء في كتاب الله. المستهزئون عقابهم عند ربهم. أما أنت يا رسول الله، فقد كفاك ربك الاستهزاء، أي لم يعد هناك من داعٍ للالتفات إليهم والإصغاء إلى أقاويلهم وسخريتهم، بل أغناك ربك عن الاستهزاء الذي واكب كافة الأنبياء والرسل عبر العصور.
يبدو إذاً أنّ الإساءة إلى الإسلام شيء والاستهزاء (هذا إذا ثبت) شيء مختلف تماماً، أقلّه من الوجهة الفقهية، حيث إنّ الإساءة إلى الرسول الكريم مثلاً لها مفهوم فقهي واضح ولها حد فقهي واضح أيضاً. أما الاستهزاء، فلا أعرف له تعريفاً واحداً واضحاً ولا حدّاً واحداً واضحاً عبر تاريخ الفقه الإسلامي بأسره. ونأتي أخيراً إلى مكان هذه الواقعة وزمانها. إنّ «جامعة بيرزيت» مفخرة فلسطين الثقافية في العصر الحديث، وهي تختزن ماضي فلسطين وحاضرها ومستقبلها، وهي تخوض اليوم ككل فلسطين معركة ضارية مع عدو يستمد العديد من سياساته من موقف استشراقي مبني على الإساءة والتشهير والاستعلاء. كل فلسطين وكل عربي وكل مسلم مدعوّ إلى احتضانها ودعمها بكل ما أوتينا من قوة.
أما أن نلتفت إلى أحد أهم أساتذة فلسطين الجامعيين ونستخدم شعاراً فضفاضاً كـ«الإساءة» ولا نعرّفه لا أخلاقياً ولا فقهياً، ثم ننطلق به للتصويت على حرية التعبير بل وحرية الاستهزاء أيضاً، فهذا لا يعدو كونه فرض وصاية سياسية على صرح ثقافي حر بحجم «جامعة بيرزيت»، فيما تتلاطم حولنا أمواج الإساءات الحقيقية، فلا يلتفت إليها أحد.
* أكاديمي فلسطيني