موعدنا اليوم مع أمسية من التراث الإنشادي والموسيقى العربيّة المعاصرة. هذه الفرصة النادرة التي تقع في صلب عمل «أصيل» (الذراع العملي) و«مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربيّة ــ AMAR» (الذراع التوثيقية والبحثية) تقدّم أعمالاً مجهولة لحناً وانتشاراً من التراث الإنشادي، وألحاناً معاصرة لرباعيات عمر الخيّام، وشعراء آخرين أبرزهم أبو العلاء المعرّي.
منذ 2003، انصرفت «أصيل» إلى مهمّتها في البحث عن خيارات مختلفة لتطوير الموسيقى العربيّة من داخلها، أي من العناصر التي تتكوّن منها هذه الموسيقى، وتمّ تغليفها ووضعها في المتاحف وإن كانت لتظهر، فالأبيض والأسود فقط. في سبيل هذا الهدف، قدّمت «أصيل» التي أسّسها مصطفى سعيد، رؤيتها الطليعيّة في حفلات عدة في القاهرة والمغرب والبحرين وبيروت.
وعندما برزت الحاجة لتوثيق «خيانة التراث المتحفيّ» كما يسميه مصطفى سعيد، أصدرت أسطوانتين: الأولى «رباعيّات الخيّام» (2008 ـــ Forward Music) التي طمح من خلالها سعيد إلى ترسيخ نظريته في تأويل الأسلوب الموسيقي الموروث عبر نهضتي العصر العباسي والقرن التاسع عشر الموسيقيتين. والاسطوانة الثانية هي «أصيل» (2009 ــ إنكوغنيتو ــ حصلت Forward على حقوقه مؤخراً) التي تكتشف حدود الطابع الارتجالي في المقطوعات التراثيّة. ولا ننسى مشاركة «أصيل» في إحياء مئوية مطرب عصر النهضة يوسف المنيلاوي السنة الماضية. أما الليلة، فنتعرّف مجدداً إلى المنشد المصري إيهاب يونس (1981) الذي أحيا مئوية المنيلاوي، وانضم إلى «أصيل» عام 2008، مقدّماً وصلات إنشاديّة من دون عزف مع البطانة، وهو التصنيف الشرقي للكورس، ويشبه إلى حد ما بطانة القوّالي الباكستانيّة.
وبين ترديد الشيخ إيهاب يونس والبطانة، يبدأ البرنامج بقسمه الأول بتواشيح «إن العواذل»، و«مولاي كتبت رحمة الناس عليك»، و«دع يا عذولي». وكلها مجهولة التلحين، إلا توشيح «ميلاد طه» الذي لحنه الشيخ علي محمود (1878 ــ 1946)، أحد رموز عصر النهضة ومعلم الشيخ زكريا أحمد، إضافة إلى ابتهالات ليونس.
أما القسم الثاني فيقدّمه سعيد، وألحانه من رباعيّات الخيّام، وقصائد «لما بدا لي» لجميل صدقي الزهاوي، و«غرست الحب» لأبو يزيد البسطامي، إضافة إلى ارتجال للشيخ يونس على قصائد لأبو العلاء المعرّي. يؤكّد مصطفى سعيد أنّ الهدف من تأسيس «أصيل» هو «البحث في التراث وخلق موسيقى معاصرة». لكن في حديثه إلى «الأخبار»، يحمل على متحفّية البحث: «إذا كان البحث في التراث متحفيّاً، فلا نفع منه، بل إنّه يضرّ هذا التراث ويخلق عصبيّة للماضي وبكاءً على الأطلال». أما العلّة بحسب رأيه فهي «اعتماد الاستيراد من خارج الموسيقى العربيّة كسبيل وحيد للتطوير» وتجاهل عناصر التطوير الداخليّة. ويهاجم سعيد الذاكرة الانتقائيّة: «النسيان المتعمّد لما لدينا من إرث هو السبب الرئيس لعدم التطوّر، ليس الموسيقيّ فقط، بل في مختلف أشكال الحياة».