عمّان | يرفض سائق التاكسي أن يصدق وجود مهرجان في قلب عمّان يختص بفن الحكي وعروض الحكائين منذ خمس سنوات، هو المفتون بحكواتي قريته الذي توفي منذ زمن بعيد. يعود بحنين هائل إلى تلك الذكريات ويلوّن بها ماضيه. «هل ما زال للحكواتي مكان؟»، يتساءل السائق ثم ينتقد المقاهي التي باتت «تغصّ بشاشات التلفزيون». تضاعفت دهشته حين طلبنا منه التوقّف أمام بوابة «مسرح البلد» في جبل عمّان: «أعبر من هنا عشرات المرات في الأسبوع، ولم ألحظ يوماً وجود مسرح!». حاله كحال مئات غيره من السائقين وأصحاب المهن والعمّال والعاطلين من العمل، يعبرون مدينتهم من دون أن يعرفوها، وفي المقابل تعبرهم مدينتهم بكل تفاصيلها وتحرمهم حكاياها. بلا حكايات يتوه المرء في مدينته، ويعجز عن فهم تحولاتها، فيغترب بين شوارعها. المدن تطالب بالحكايا، والحكايا تريد فضاءً ومسرحاً ولقاءً بين الناس. وهنا تكمن فلسفة برنامج «حكايا» منذ انطلاقته حين تشارك المؤسسون إيمانهم بالدور المركزي الذي ينبغي للقصة أن تؤديه في نمو الأفراد والمجتمعات.
اليوم، يجدد البرنامج التزامه برؤيته في النسخة الخامسة من «ملتقى حكايا»، الذي انطلق أمس ويستمرّ حتى 17 أيلول (سبتمبر) الحالي، مقترحاً على جمهوره أكثر 25 فعالية تتوزع على أربع مدن و14 موقعاً داخل المسارح والقاعات وخارجها، وتتنوع بين عروض الحكواتية والشعر والسينما. وفي هذا العام، يركّز الملتقى على تقديم عروض المسرح المتقاطعة في بنيتها مع فنّ الحكي. في «حكايا من الذاكرة»، ينبش سلمان ناطور (راجع الصفحة المقابلة) عميقاً في الذاكرة الفلسطينية، يجمع حكاياه من أفواه الناس، يمزج حقيقتها مع خياله ليكون المنتج حكايات أجيال تروي الهزيمة والانتفاضة من دون مؤثرات وبحميمية عالية مع الجمهور. نتسكع في حكايا الناطور، فنحلم مع «الشيخ عباس» بإسقاط الطائرات المعادية، لكننا لا نفقد ذاكرتنا كما حلّ بالشيخ، ولا نعتقد كما اعتقد أنّه ما من طائرة عربية حربية تطير في السماء إلا «إذا إجو أخذوا مفتاحها مني»، لكننا في أحد الأيام نجد جثته ممزقة على الأرض وجثة حماره والمفاتيح متناثرة... نحاول عبثاً منع الضباع من أكل جثته! نقبل أن نغادر حكايا ناطور. يصرخ بنا الشيخ «أبو صلاح اللواح» المحب للدبكة والنكات قائلاً: «راحت البلد، وراحت الأرض وراح الزعتر وراح الولد وما بقي لي غير هالحطة، قبل ما يعملوا منها فساتين للسهرة، خذوها».
تتشارك الحكواتية سارة قصير في «حكايات لبنانية» خط سلمان ناطور. هي أمضت سنوات طويلة في جمع الحكايا من أفواه «الختايرة» على حد تعبيرها، لتعيد إحياءها مباشرة أمام جمهورها بأسلوبها الخاص. لم تدوّن سارة مخزونها الحكائي، بل تعتمد في حفظه على حرارة قلبها من جهة، وعلى فرادة حكاياها من جهة أخرى، وهذا ما تؤكده عندما تصف حكاية جدتها أم قاسم التي ستقصها أمام جمهور الملتقى فتقول: «لم أجد ما يشبهها في كل التراث العالمي».
للثورات مساحتها في حكايا الملتقى، إذ يؤرخ عرض نوال اسكندراني «هرسلة@فن فقط» لـ 23 عاماً من القمع تحت نظام زين العابدين بن علي. ثماني حكايا موزعة على خمسة أجزاء يمتزج فيها الرقص مع موسيقى الغيتار الحية، ويتداخل فيها الذاتي والموضوعي. تبدأ الحكاية من تشرين الثاني (نوفمبر) 1987 لتنتهي في كانون الثاني (يناير) 2010. تقول الكوريغراف والراقصة التونسية: «أعدت النظر جذرياً في العرض بعد الثورة. كل ما امتلكته حينها قصصنا تحت حكم بن علي وعشرة أيام عمل وزميل مبدع هو العازف والمؤلف الموسيقي جوهر باسطي، وكان ذلك كافياً!».
تقف نوال في نقطة تتقاطع عندها معظم مكوّنات الفنون. درجت منذ زمن طويل على دمج وسائط فنية مختلفة مع بعضها، مثل الفيديو والنصوص والكلمات، كما أن امتلاكها خلفية فنية متينة في الباليه الكلاسيكي منحها القدرة على التعاطي مع الموسيقى الحية وروي القصص. يشير مدير الملتقى رائد عصفور إلى تزامن الدورة الماضية مع انتهاء الثورات في تونس ومصر. ومن حينها، أبدى الملتقى اهتماماً بمجريات الثورات بوصفها ناقلاً اجتماعياً سياسياً حيوياً للتغيرات الحاصلة في حياة الناس ومجتمعاتهم. يقول لـ «الأخبار»: «كان هناك اهتمام بفهم ما جرى وآليات حدوثه على الأرض من خلال الحكي ومن خلال الناس (الحكائين) الذي كانوا شهوداً على الحدث»، لكن الملتقى في هذه الدورة لا يكتفي بالمحاكاة المباشرة للثورات، بل يستدرج عروضاً يثور أصحابها على مفاهيم اجتماعية مكرّسة تحرم الإنسان إنسانيته وتضيّق على المرأة وتكرّس الكبت، وهذا ما تقترحه علينا فرقة «حكاوي التحرير» الآتية من مصر بعرضها «بُصّي» الذي يستعرض قصصاً وتجارب عن التحرش الجنسي وعلاقة المرأة والرجل بجسدَيهما.

«ملتقى حكايا الخامس»: حتى 17 أيلول (سبتمبر) ــ عمان، الأردن ــــ للاستعلام: 0096265687557
http://hakaya.org




سؤال التمويل

مع انتهاء السنوات الثلاث التي كانت مدعومة بمنحة من الاتحاد الأوروبي، يبرز سؤال التمويل مع الدورة الخامسة من «حكايا»: «الملتقى لن يتوقف» يأتي الجواب حاسماً من إدارة الملتقى خلال المؤتمر الصحافي الذي أقيم في «مسرح البلد» قبيل انطلاقه