لا يكفي أن يختار الكاتب موضوعاً مثيراً للكتابة، ليجعل هذا من أمر القراءة تجربة مثيرة. المواضيع الجدلية على «قفا من يشيل». اللذة كل اللذة في التفنن في سبل مداناتها. لكنّها خيبة أمل كثيراً ما تتكرر لدى قراءة معظم ما تجود به قريحة الباحثين العرب. وربما لن تسلم مقاربة الباحث الأردني هيثم سرحان في كتابه «خطاب الجنس، مقاربات في الأدب العربي القديم» (المركز الثقافي العربي) من الوقوع في شيء من ذلك. فقد استمر سرحان في غزل نسيجه ضمن كل فصل لينكثه، ويعاود كثيراً منه في الفصل الذي يليه. كما اعتمد اعتماداً كليّاً تقريباً على إعادة تدوير Recycling ما قاله سواه آنفاً.

ما يحسب لهذا الأكاديمي، صاحب «استراتيجية التأويل الدلالي عند المعتزلة»، درايته الأكاديمية بالموضوع الذي يطرقه. كما يرفل بحثه بالكثير من المختارات الجميلة من الأدب العربي القديم، ما أكسبه صفة إعادة الإخبار قبل التأويل. يعتمد البحث بالأساس على كتاب الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو «تاريخ الجنسانية: إرادة المعرفة». يحاول سرحان تطبيق نظرية فوكو في خطاب الجنسانية وعلاقته بالسلطة، على النصوص العربية القديمة أو ـــ لنستخدم تعبير الباحث نفسه ـــ «التآليف الجنسية العربية». ويمتدّ البحث على أربعة فصول ضمّت مباحث مختلفة، «خطاب الجنس: المفاهيم والتصورات»، و«استقبال الجنسانية في الأدب العربي القديم»، «مقاصد الجنسانية»، و«تمثيلات الجنسانية»، وهذا الأخير من أفضل فصول الكتاب، إذ لمع فيه شيء من تفرُّد التأويل.
يتطرق الباحث في هذا الفصل إلى موقف المرأة العربية من السبي الجنسي، وسنتوقف فيه عند قراءة سرحان لموقف المرأة التي تستعذب السبي وربما تنشده، لتعيش حالة السبيّة المتواطئة. ويروي لنا الحكاية المعروفة المتناقلة عن زوجة الحارث بن عمر التي أخذها ابن هبيرة سبية من بيت زوجها، ولشدّة جمالها لم يصبر حتى وصول قبيلته فوقع عليها في الطريق واستلذت هي في مجامعته، وخافت أن يدركه زوجها فطلبت إليه أن يهرب. لكنَّ زوجها حضر وقتله. وسألها إن كان أصابها فأجابت قائلة «والله ما اشتملت النساء على مثله قط»... ومعروف كيف كانت نهايتها أن ربطت بفرسين، وشقّ جسدها إلى نصفين. ويذهب سرحان في تأويله إلى أنّ الزوجة تحدثت بصوت «النساء التائقات إلى السبي والراغبات في الخروج من مؤسسة الزواج». وفي الواقع نتوقف هنا لنسأل سؤالاً موازياً حول حال المرأة العربية التي كانت بتغيير باب خبائها، تقول لزوجها إنّها زهدت في جماعه، وإنها عنه راغبة.
من باب آخر، يتطرق البحث إلى التمرّد الجنسي عند المرأة وقتل الأب. ويورد على ذلك مثالاً قصة ابنة الخسّ التي حملت من حبيبها فقالت حين سئلت ممن حملها: «ثكلت أبي، إذ كنت ذقت كريقه سلافا ولا ماء من المزن صافيا/ فأقسم لو خيّرت بين فراقه/ وبين أبي لاخترت أن لا أبا ليا». ويقرأ سرحان دلالة اعتراف هذه الصبية المستخف بالدين، والعقاب، ورغبتها في قتل الأب كرغبة في قتل السلطة بمختلف مستوياتها.
وبالعودة إلى أدبيات الكتابة في الجنس، يسأل الباحث لماذا كتب العرب الكثير عن ممارسات الجنس وأصوله في العصور الذهبية للفتوحات الإسلامية؟ ويجيب الباحث أن «الحضارة العربية قيّض لها الكثير من العوامل والظروف التي مكنتها من الالتفات إلى الأنشطة الجنسيّة، وتحويلها إلى جنسانيات، نتيجة للطفرة المعرفية، ونتيجة لما وفّره النظام الإسلامي من تفوق جنسي ومعرفي للرجل بهذا الصدد، من خلال السماح له بالتعدد والجواري. ومن خلال ما شاع أيضاً في العصرين الأموي والعباسي، من أخبار الخلفاء مع الغلمان والغلاميات والقيان». فقد توفرت مادة معرفية ضخمة، قدّمت فرصة لتناولها كأخبار على عادة العرب دوناً عن تناولها بالتأويل والقراءة كما كان يحدث في شتى العلوم الأخرى، باستثناء القليل الذي جاد به الجاحظ في هذا الشأن. ويرى الكاتب أنّ الجاحظ قد لجأ إلى تبرير التهتك لخلفاء بني العباس لدى كتابته عن ذلك، ولم تكن غايته علميّة معرفيّة. وقد كانت مجمل المؤلفات في هذا الصدد تسعى إلى «الإحاطة برغبات الإنسان، ونزعاته الجنسية المتعدّدة، وسعت إلى إيجاد تأويلات تهدف إلى تفكيك جدر التحريم والتأثيم في موضوع الجنس».
لكن، ما كانت علاقة السلطة بتلك الأدبيات؟ هنا يلجأ الباحث إلى قراءة فوكو، فيتناولها منطلقاً من أنّ الثقافات نفسها تدفع نحو تخصيب الخطابات. وهذا ما يؤدي إلى إخراج الجنسانية من الحجاب إلى الخطاب بفعل عملية تخمير خطابي، تستحوذ عليه السلطة، وتجعله ضمن مجالاتها، بهدف السخرية من الحشمة والاستهزاء من الورع. وفي موضع آخر، يعرض سرحان التلازم بين السلطة واللذة، فالسلطة تمارس لذّتها عبر الكشف والتفتيش، وإن كنّا لا نتفّق مع سرحان في قوله بأنّه «كلما توسعت دوائر السلطة تكاثرت الجنسانيات». وفي قوله أيضاً إنّ «ادعاء الخطاب، دفع الأفراد والمجتمعات وحملهم على البوح بممارساتهم، وتقديمها للسلطة المتعطشة إلى الاستحواذ على البيانات وحيازة الأرشيف بهدف إعادة الخطاب». ربما يكون مقدم الكتاب حسن ناظم محقاً حين رأى في بعض ما يقوله سرحان حماسة مفرطة وشيئاً من المبالغة.