بروكسيل ــ «حرائق» الذي نال لقب أفضل فيلم كندي لعام 2010 وفق جمعية نقاد تورونتو، ودخل اللائحة نصف النهائية لجوائز الأوسكار (27 فبراير) عن فئة أفضل فيلم أجنبي، يرتكز على نصّ المسرحي اللبناني وجدي معوّض بالعنوان نفسه Incendies، وسيرة سهى بشارة «المحرّفة» التي أقدمت عام 1988 على محاولة اغتيال قائد جيش لحد في لبنان الجنوبي، وعلى أثرها وقعت، كما هو معروف، في قبضة الاحتلال الإسرائيلية، لتقبع عقداً كاملاً في معتقل الخيام حيث تعرّضت لشتّى أنواع التعذيب.شريط المخرج دينيس فيلنوف الذي وصل إلى مختلف العواصم الأوروبية، يبدأ بقصّة الأمّ، نوال مروان (لبنى أذابال) التي تتماهى سيرتها مع سيرة سهى بشارة. نوال التي قضت في حادث غريب في كيبيك، تركت وصيةً لولديها التوأم بأن تدفن عارية من دون نعش، وألّا يوضع أيّ حجر فوق قبرها إلّا بعد اكتشاف سرّها الذي عاشت معه وحيدة طيلة حياتها. تكلّمت الأمّ في وصيّتها أيضاً عن أخ آخر للتوأم وأب لهما. كان ذلك بمثابة صدمة للولدين اللذين لم يسبق أن تكلّما عن أبيهما ولم يكن لديهما فكرة عن أخيهما الضائع. هنا تنطلق الأخت (ميليسّا ديزورمو ــــ بولان)، والأخ (مكسيم غوديت)، في رحلة للكشف عن تلك الأسرار.
مع أنّ الفيلم يسرد أحداث الحرب اللبنانية، ومن ضمنها مآسي الفلسطينيين، إلاّ أن اللكنة اللبنانيّة غائبة عن الفيلم، وتحلّ مكانها اللكنة الفلسطينيّة وبالطبع الفرنسيّة الكيبيكيّة. وقد اختار المخرج لفيلمه الذي يصوّر المجتمع اللبناني المتحارب، الإفلات من نمطيّة السّرد وقيود التسلسل الكرونولوجيّ، فقد عاد بالزمن ليحكي قصة المرأة التي توفّيت في المسبح. دمج مثلاً عمليّة سهى بشارة عام 1988 مع «بوسطة عين الرمّانة» التي أشعلت الحرب الأهلية عام 1975. دمجهما في الإطار الزمني نفسه، في خدمة البنية السرديّة، لكن ربّما على حساب العلاقة بموضوعه التي تجنح إلى مطب الاستشراقيّة.
فضّل المخرج أيضاً تغيير الأسماء، ولم يشر إلى الميليشيات بأسمائها. ورأى بعض النقّاد أن المخرج نجح في تفادي المشاهد العنيفة (غير المرغوبة في أوروبا)، من دون أن يكون ذلك بالضرورة على حساب الإحالة إلى مادة الفيلم، المجبولة بالعنف والخوف والموت، في خضمّ الحرب الأهليّة اللبنانيّة.
يمضي الفيلم في حركة تصاعديّة وصولاً إلى الذروة: عنف الحرب جعل نوال مروان تفقد ابنها مرغمة... وكانت وصمة العار تلاحقها في بيئتها، لأنّها ـــــ هي المسيحيّة ـــــ حبلت من مسلم. هكذا نفتها العائلة إلى منزل خالها في المدينة، وأخذت ابنها عنوةً منها مرّة أولى. تربّى الابن في المخيمات التي دخلتها لاحقاً «جماعة شمس الدين» (احالة إلى اليمين المسيحي). سُبيَ الابن للمرّة الثانية ودُرّبَ ليصبح قناصاً باهراً وماكينة قتل في صفّ اليمين المسيحي. إلاّ أنّ «العدوّ» المُسلم نجح في تطويقه والقبض عليه، وخطفه وإجباره على العمل لمصلحته.... وكانت تلك المرّة الثالثة التي يغيّر فيها وجهته. عمل الابن في سجن الخيام (الذي خضع لسيطرة جيش لحد) حيث كانت تقضي عقوبتها ولُقّب بأبي طارق (أبو طارق كان جلّاداً)، واغتصب نوال (أي أمّه) مراراً من دون أن يعرفها، حتى أنجب منها التوأم الذي تربّى في كندا لاحقاًَ. هكذا يكتشف التوأم الهويّة الحقيقيّة لأبيه (الذي ليس سوى أخيه).
كأنّنا بالمخرج دينيس فيلنوف يتبنّى تلك المقاربة الرمزيّة التي مفادها أن اللبنانيين هم الجلادون وهم الضحايا في آن... فاتحاً كوّة على الأمل واستعادة اللحمة الأهليّة، شرط القيام بمراجعة حقيقية، ونقد صارم للذات، ومواجهة الذاكرة المؤلمة. ولا نعرف كم بقي الفيلم أميناً لرؤيا وجدي معوّض في النصّ الأصلي.
هل هذا الاختزال يقترب بشكل من الأشكال من معاناة اللبنانيين الفعليّة، وتاريخهم الصعب؟ يؤخذ على المخرج تعثّره أحياناً في نقل نصّ معوّض المسرحي إلى الشاشة الكبيرة. وعجزه عن إيصال جوهر الرؤيا إلى جمهور غربي غير قادر على التفاعل مع الأحداث، لأنّه لا يملك الخلفية المعرفية التي تمكّنه من ذلك.