حيفا | «جئتُ إلى مخيم جنين لأشارك أهله في نضالهم ضد الاحتلال الإسرائيلي، وأمشي معهم على طريق الحرية والاستقلال... إن قوة المسرح تعادل قوة السلاح والبندقية في وجه الاحتلال». هذا الكلام يلخّص فلسفة جوليانو خميس التي لم تحم صاحبها من الموت غدراً: المسرحي الفلسطيني اغتيل بعد ظهر الاثنين على بعد أمتار من «مسرح الحريّة» الذي أسّسه عام 2006 في مخيّم جنين. نهاية صادمة لرجل المهمات الصعبة:
صاحب السترة السوداء والصوت العالي، انهمر عليه رصاص الغدر، فسقط مضرّجاً بدمائه. عاش ومات فلسطينياً، و«بقي» في جنين حيث كان النضال مع الصغار، من خلال الثقافة، أولويّة له هو المتعدد المشاغل والاهتمامات...
جوليانو مير خميس (1958 ــــ 2011) ابن المناضل الفلسطيني صليبا خميس، أحد أبرز وجوه الحزب الشيوعي الإسرائيلي في الستينيات، وآرنا مير خميس اليهودية التي انتقلت من معسكر الصهيونيّة إلى نصرة القضيّة الفلسطينيّة. وقد تعرّف إليها الجمهور العريض من خلال فيلمه الوحيد «أولاد آرنا» وهي تغطّي صلعها، بفعل مرض السرطان، بالكوفية، وتصرخ في وجه الجندي الاسرائيلي على أحد المعابر. يترك «جول» وراءه حروباً لم تنته ضد الاحتلال، وإيماناً بأنَّه وراء المقاومة، يجب أن تكون هناك ثقافة تحميها. هو الذي طالما ردّد بأنّ «البندقية التي لا ثقافة وراءها، تقتل ولا تحرّر»، قتلته تلك البندقيّة الجاهلة. في كل شيء كان جول خاصاً: تاريخه ووعيه وظهوره وهيأته ورأيه السياسي. حياته تملأها التفاصيل. ولد قبل 53 عاماً في الناصرة. والدته آرنا (1931 ــــ 1994) انتقلت من صفوف البالماخ الصهيوني إلى ناشطة ومناضلة فلسطينيّة. تزوجّت من صليبا واعتنقت قضيّته، في قلب الحلم اليساري الطوباوي الذي راود كثيرين آنذاك، بأن النضال السياسي المختلط من أجل العدالة ممكن ضمن مشروع دولة علمانيّة. دخلت آرنا مخيم جنين في الانتفاضة الأولى، وعملت مع أطفال المخيم وعاشت معهم السنوات الأخيرة من حياتها. وحين فازت بجائزة «نوبل» البديلة عن نشاطها هناك، تبرّعت بالمال لبناء «مسرح الحجر» عام 1993 قبل أن يدمّره الاحتلال خلال اجتياح المخيم عام 2002.
جول سار على درب أمّه. بدأ مشواره ممثلاً في الفيلم الأميركي «الطبّالة الصغيرة» (1984)، وشارك في عدد من الأفلام والمسلسلات الإسرائيلية، أبرزها للمخرج عاموس جيتاي. أدّى أدواراً بارزة على المسرح الإسرائيلي، وظهر في أفلام فلسطينية من بينها «الشهر التاسع» (علي نصّار)، و«عرس الجليل» (ميشيل خليفة). أعمال كثيرة أدّاها جوليانو مير خميس. لكنّ جنين تبقى المحطة والمنعطف الأهم في مسيرته الفنية والسياسية.
اجتياح جنين أعاده إلى «أولاد» آرنا. عام 2002 كان مفصلياً. القوات الإسرائيلية اجتاحت المخيّم الذي عرف مقاومة أسطورية. هدم وموت وجثث تحت الردم. كان جوليانو في حيفا، يحاول حشد المعونات لأهل المخيم. كان يعرفهم ويعرف بيوتهم جيداً، فالسنوات التي قضاها مع والدته هناك كانت كافية لأن يشعر بالبشر القابعين تحت القصف. كانت تصريحاته نارية ضد الاحتلال الإسرائيلي، حتى صار عدواً لإعلامه. ثم جاء فيلمه الوثائقي «أولاد آرنا» (2003) ليقتفي أثر أطفال المخيم الذين شاركوا في مسرح والدته أثناء الانتفاضة الأولى قبل أن يجرفهم تيار العنف الاسرائيلي ويسقط بعضهم في العمل الفدائي. في إحدى المقابلات، حكى جول كيف جاءته فكرة الوثائقي. كان ذلك بعد اجتياح مخيم جنين، حين تلقّى مكالمة هاتفية من يوسف سويطي الذي كان عضواً في فرقة المسرح التي أسّستها آرنا. قال جوليانو: «كانت المكالمة عادية جداً. سألني عن أخباري، وعن وضعي وعن العائلة». بعدها، فوجئ جوليانو بأنَّ العملية الفدائية التي استهدفت إسرائيليين في مدينة الخضيرة، نفّذها يوسف نفسه.
هكذا حمل كاميراه ومضى نحو المخيم. لم يعرف أحد ما الذي يخطط لفعله هناك. فيلم عن جنين. كان منهمكاً بالتصوير. يقضي وقته متنقلاً بين حيفا وجنين. في نهاية المطاف خرج «أولاد آرنا» إلى النور. الفيلم كان تتويجاً لمسيرة أمّه آرنا، تلك المرأة القوية، الاستثنائيّة. لكنها في الحقيقة كانت قصة أبناء المخيم، وكيف انقلب الحلم على الحالمين، وكيف أنَّ هؤلاء الأطفال الفلسطينيين الذين حلم أحدهم بأن يصبح «روميو الفلسطيني» ويجد «جولييت في المخيم»، تحول إلى مقاوم، أي «إرهابي» بنظر الإسرائيليين والعالم. كان «أولاد آرنا» فيلماً قوياً ومقنعاً ومؤثراً، لا يعكس فقط واقع الفلسطينيين بل يروي قصة من أساسها، موثقة وقوية واضحة الملامح عن آمال شعب تبدّدت بوحشية الاحتلال ودمويته.
عندما أبصر الشريط النور، كان جوليانو يقف خجلاً ليحكي عن تجربته الشخصية مع الأطفال. وها هو الفيلم يصبح الآن قصة جوليانو الذي لقي موته هو أيضاً على أرض المخيم، حيث أنشأ عام 2006 «مسرح الحرية» مواصلاً مشروع والدته. تعرض المسرح لمحاولتي إحراق. ومنذ أن افتتح، تعرّضَ جوليانو لتهديدات كثيرة، طاولت المسرح أولاً، ثم طاولته مباشرةً. هكذا، أصدر في نيسان (أبريل) 2009 بياناً جاء فيه: «إننا نناشدكم اليوم وندعو أصحاب الضمائر الحية، وكل من يؤمن بأنّ مستقبل فلسطين يكمن في ثقافتها، أن يرفعوا أصواتهم عالياً ويقفوا إلى جانب «مسرح الحرية»، في وجه هذه المحاولات الهمجية التي تريد النيل من مستقبل الشعب الفلسطيني برمّته».
صحيح أنّ جول لم يقل مرةً إنّ «مسرح الحرية» سيحلّ مأساة المخيم العالقة تحت الاحتلال، لكنه آمن فعلاً بإمكان زرع بارقة أمل في مكان يبخل عليه العالم أجمع بتلك البارقة، وحيث يعيش آلاف الأطفال مكدّسين، منسيين، في مواجهة همجيّة الاحتلال. حلم جوليانو فعلاً، كما قال في أكثر من مرة، بمسرح يمتلك المقومات الأساسية لخلق جيل يرفع الصوت عالياً ضد التمييز والعنصرية، بحثاً عن العدالة المفقودة. لكنّه لقي حتفه هناك من دون أن يقول للأطفال وداعاً. كانت آرنا ربما أكثر حظاً منه. حين فقدت الأمل بالانتصار على السرطان، طلبت من جول أن يأخذها إلى جنين لتودّع الأطفال قبل أن تموت. «ابن» آرنا اكتفى بافتتاح مهرجان «أيام المنارة المسرحية» في رام الله بعرضه «الكراسي» (راجع صفحة 22) قبل أن يذهب إلى موعده مع الموت.