لم تكن حياة التشكيلي اللبناني شفيق عبود (1926 ـــــ 2004) بين ضفتي المتوسط، أمراً يحسد عليه. الاختبارات النفسية والإبداعية التي فرضها التوزّع على عالمين متناقضين، وضعت لوحته أمام رهانات متشعّبة. كان عليه استيعاب ذلك القلق في لوحات صارت مساحات مفتوحة لارتحالات بصرية، جمع فيها عناصر ومرجعيات غير متجانسة. عاش عبود زمنين يتقاطعان حيناً، ويمضيان في اتجاهين مختلفين في أحيان كثيرة. بيروت الفتيّة، وباريس الناضجة.
في وطنه، كان عليه أن يكون مصوّراً ومعلماً، وفي العاصمة الفرنسيّة، كان التجريد مغامرته لإثبات وجوده، في مدينة كانت تحتشد بمبدعي العالم. تحوّلت سطوح اللوحة لديه إلى طبقات رديفة للزمن.
«معهد العالم العربي» في باريس يحتفي بأعمال عبود عبر معرض استعادي يستمر حتى 19 حزيران (يونيو). لقد جمع كلود لومان، صديق الفنان الراحل وصاحب الغاليري التي تعرض أعماله Galerie Claude Lemand، ١٩٠ عملاً أُنجزت بين 1948 و2003، عبر هذه اللوحات التي يندر جمعها، يمكن المتلقي السفر في عوالم أحد أبرز رواد الفن العربي المعاصر، وأحد رموز «مدرسة باريس الجديدة» في الفنّ المعاصر.
حين قال عبود إنّ الفن «لعبة ملعونة»، كانت لوحته تمضي في مسارات اختبارية عدة. كان الشرق هاجساً، والغرب تحدياً، والخيبة رديفة لسنوات من مسيرته: بيروت التي دخلت حربها الأهلية، وباريس الجامحة المتردّدة في الاعتراف بفنان آت من خيبات الشرق. كان عليه مواجهة انهيارات فنية كثيرة، قبل امتلاكه القدرة على التمرُّد وإنجاز شكله الخاص.

في محترفه الباريسي قرب حدائق Montsouris، كانت الرهانات كثيرة ومعقّدة. قبل ذلك بكثير كانت التجريدية الغنائية التي ارتمى عبود في أحضانها ـــــ لقدرتها على استيعاب نداءات الشرق وعجينته العاطفية الفريدة ـــــ تعيش امتحاناً تنظيرياً قاسياً. لم يكن لأحد آنذاك أدوات الدفاع عن فنّ بلا مرجعيات حقيقية... الغنائية شيء، والتجريد شي آخر، لكن منذ الستينيات ومع تراجع «إرهاب التجريد»، كما يقول عبود، صار ممكناً الخروج إلى النور بمفاهيمه الخاصة في اللوحة التي تحتفي بالحياة.
يصعب على متعقّب مسيرة عبود تقسيمها إلى مراحل محدَّدة. تجدّده ولغته وانعطافاته، جعلت عمله مساحةً مفتوحة على احتمالات كثيرة. لم يقع في شرك اللوحة الواحدة، وكان حذراً من الآلية التسويقية التي راحت تفرض قواعد صارمة على المنجز الفني في أوروبا. عام 1990 مثلاً، أنجز مجموعته «المقاهي المدمَّرة» حيث عاد إلى الحرب اللبنانية، لينتشل منها تشكيلات حركية ولونية صاخبة عن المقاهي البحرية التي دمرتها سنوات الاقتتال. هذه العودة إلى سنوات الحرب تقودنا إلى الآلية المفاجئة والمباغتة التي كان يعمل بها عبود. في لحظة ما، يفتح نوافذ الذاكرة، ليطلّ منها على ماضٍ حافل بالمواجع.
منذ تجاربه الأولى، كانت لوحته حافلة بالتحديات. رفضه للمنجز البصري قاده إلى صدامات تعبيرية كثيرة. هجر الكلاسيكيات الرائجة. رهاناته الأولى ذهبت إلى رفض إعادة إنتاج الواقع. أعطى لأعماله فضاءً حراً وواسعاً لا ينفصل عن الواقع، بل يراه من زوايا مختلفة ومغايرة. هذه المغايرة رافقت عبود حتى اللحظة الأخيرة من حياته التي عايشت صعود وانهيار الكثير من القيم والمدارس الفنية. وسط هذه التحديات، كان عليه الدفاع عن وجوده الفني رغم الانتصارات التي حقّقها أنصار عبارة «مضى على استخدام الألوان الزيتية أكثر من ستة قرون وهذا يكفي». عبود الرسام بامتياز لم يكن يعارض هذه النظرة الجديدة، لكنّه رفض تطرف أصحابها.
المعرض الاستعادي يحمل إشارات واضحة إلى فنان قادر على التجدد، وجعل اللوحة مساحة اختبارية رديفة للحياة. في لوحة «الجد» (1948 ـــــ 55 × 53 سنتم) ينقلب عبود على منطق جمالي تزييني كان سائداً ذاك الوقت. تبدو اللوحة آتية من حساسية شعبية حكائية. النظرة المغايرة للتراث المحلي، وخصوصاً الحكائي، ظلّت مرافقة لمسيرة عبود، لكن الحكاية تراجعت لاحقاً، وصارت منطلقاً لبناء عالم بصري نافر، لا يخلو من انفعالات قوية وقاسية. تشظت المفردات الحكائية لاحقاً خلف إيقاعات وتكوينات، حرص عبود على تركها جامحة وغير منضبطة في مساحات اللوحة الناهضة من إحساس غريزي بالحياة ومكامن الجمال فيها.
في «الفجر» (2003)، يمكننا الإحساس بروحية عبود التي حافظ عليها على امتداد مسيرته الحافلة. التجريب والاقتراح رديفان للوحته الغنية بالإشارات. السطح يحيلك على قصة ما يترك لها الفنّان نوافذ لتُطل منها. الصنعة الماهرة لم تستدرجه إلى لجم العمل. لا يزال الإحساس بالحياة وافراً ومتّقداً، في بنية عالية الحساسية، وإيقاع لوني آسر. بين هذين العملين، أنجز عبود عشرات التجارب والمعارض التي كرسته فناناً عالمياً بامتياز، ورمزاً من رموز «مدرسة باريس الجديدة».
كان أول فنان عربي ينجز كتباً بتقنية الحفر على النحاس في الخمسينيات، وأول فنان عربي شارك في بينالي باريس. لم تفارقه سمة التأمل في تفاصيل عالم متغير. في محترفه الباريسي، كان يخلط شغف الشرق بزمن باريسي متسارع ومتحول. لوحة عبود لم تتصالح مع الزمن وظلت حتى اللحظة الأخيرة تحكي لنا ما يتعذر قوله. كان يقول: «وحده الفنان يفجّر المستقبل، ولهذا فهو وحده يعرف الخوف. الهواة يلعبون، يتسلون، يركضون وراء الواجهات. الفنان الحقيقي ينتحر في صناعة المستقبل».



شفيق عبّود، معرض استعادي: حتى 19 حزيران (يونيو) المقبل ـــــ «معهد العالم العربي» (باريس) ــــ www.imarabe.org