أغنياتها محمّلة بندوبنا وهواجسنا. تحاول من خلال فنّها تقديم إجابة عن سؤال الهوية والوطن المعلّق، ومخاطبة وعي الناس، وترميم ذائقتهم، وربّما ذاكرتهم أيضاً، لكنّها في الوقت نفسه تتخفّف ـــــ قدر الإمكان ـــــ من الوعظ والبلاغة. لا تخفي تأثّرها بعمر الزعنّي، وسيّد درويش، وصلاح جاهين، وزياد الرحباني، الذي شاركت في بعض أعماله تمثيلاً وغناءً مع الكورس (مسرحية «بخصوص الكرامة والشعب العنيد»، وألبوم فيروز «إلى عاصي»...)، وهو ما يتبدّى في ميلها إلى التلاعب باللغة المحكية وألفاظها، لكن في المقابل، تقول إنّ والديها الصحافيين أدّيا دوراً أساسياً في تغذية تلك النزعة لديها.
عرفت كيف تزاوج بين الموسيقى الشرقية والغربية من دون الانزلاق إلى مطبّ الهجانة، واهتدت باكراً إلى المعادلة التي تجمع بين الشعبي والنخبوي، والسياسي والاجتماعي والعاطفي... بلغة استهزائية شفّافة ـــــ مشدودة حيناً ومسترخية أحياناً ـــــ تُقارب واقعاً مأزوماً. بشيء من البساطة، تُمَوْسِق هموم الشباب وتطلّعاتهم. رغم صعوبة تطوير أيّ مشروع موسيقي بديل حالياً، سواء في لبنان أو في أيّ بلد عربي، فإنّها تصرّ على مواصلة ما بدأته عام 2002، ولو بإمكانات قليلة. هكذا هي تانيا صالح، مثابرة ومتمرّدة «تستمدّ قوّتها من حلم التغيير». بعد إطلاق أسطوانتها «وحدة» التي تشتمل على تسع أغنيات، تحيي تانيا حفلتين، مساء اليوم وغداً، في «قاعة بيار أبو خاطر» (الجامعة اليسوعية) بدعوة من «نادي لكلّ الناس».
الإتقان، والحسّ النقدي المطعّم بالسخرية، يميّزان هاتين الأمسيتين اللتين ينتظرهما الجمهور بشوق. بذكائها، واحترافيّتها، وحساسيّتها (الشعرية والموسيقية)، تمكّنت تانيا من حيازة إعجاب الجمهور والنقّاد في آن واحد، مع أنّها مقلّة في إطلالاتها. «جمهوري الآخذ في الاتّساع والتنوّع، يملك وعياً سمعياً خاصاً». لعلّ تانيا تسعى إلى استقطاب جمهور الشباب خصوصاً.
بمشاركة فرقة تضمّ الغيتار (مهران غورونيان)، والقانون (إيمان حمصي)، والكيبورد (مازن سبليني)، والباص (هيثم شلهوب)، والطبلة (وليد ناصر)، ستؤدّي صالح مجموعة أغنيات منتقاة من ألبوم «وحدة»، وباكورتها (2002) التي لا تحمل عنواناً، وتحوي أغنيات قصيرة تتأرجح بين الروك والفانك والموسيقى العربية. لا تبتعد «وحدة» كثيراً عن جوّ باكورتها، إن لناحية الأداء أو الأسلوب أو الدمج أو القالب الفكاهي. الفرق بين الأسطوانتين يكمن في التيمات، والتوزيع (فيليب طعمة)، وبعض الإيقاعات والأنماط الموسيقية الممتزجة، والهندسة الصوتية (تقنيّات التسجيل) التي تبدو أدقّ في «وحدة»...
مع أنّ تانيا تعاونت مع جاد عوّاد وهيثم شلهوب ومهران غورونيان في التلحين، فإنّ ذلك لم يؤثّر في متانة النسيج اللحني، وانسيابية عملها الأخير. نادراً ما ينجح ثلاثة موسيقيين في صوغ جمل نغمية متلاحمة ومتجانسة، ما ينمّ عن مدى التواطؤ الفنّي بين صالح من جهة، وغورونيان وشلهوب وعوّاد من جهة أخرى. أمّا نقاط التشابه بين العملين، فلا تُختصر بالأفكار الواعدة، والجنوح إلى التجريب، والنفَس الشرقي والغربي في آن واحد، والمزاوجة بين الأصالة والعصرنة... تلتفت تانيا إلى الفولكلور العربي (أغنية «18 مولايّا»، وهي مقتبسة عن أغنية «عَ العين موليّتين» من الفولكلور العراقي ــــــ مقام البياتي)، والأغنية الشعبية اللبنانية («يا با لَه»، من كلمات وألحان روميو لحّود)، إسهاماً منها في إحياء الهوية الموسيقية العربية في زمن العولمة.
أضاءت الفنانة الشابة علاقات جديدة بين النصّ (الكلمات) واللحن والأداء، وحقّقت إضافة نوعية إلى الأغنية اللبنانية المعاصرة. هي لا تملك صوتاً نديّاً، لكنّها تتميّز بحنجرة مطواعة وخامة فريدة. قليلاً ما تستعين بتقنيّات عربية تقليدية، وتتجنّب الزخرفة والتطريب حتّى في الخواتيم الغنائية المقامية. بعد غيبة طويلة، تعود تانيا إلى الأضواء، وتضع نفسها أمام تحدّيات عدّة. ليس سهلاً أن يحارب الفنّان على أكثر من جبهة (الغناء، والتلحين، والكتابة، والتوزيع أحياناً، والإنتاج...). الغناء الملتزم (أو البديل) بات يمثّل شكلاً من أشكال النضال في ظلّ الجدب الثقافي والفنّي، وتصاعد موجة الفيديو كليب، والبوب التجاري. إنّها معركة غير متكافئة! كأنّ تانيا صالح وأمثالها يشعلون أعواد ثقاب في ظلام الراهن الملتبس.
ومع ذلك، تتابع تانيا صالح مسيرتها بمزيد من العزم والثقة: «رياح التغيير في المنطقة ستنعكس شيئاً فشيئاً على مجال الفنّ والثقافة. خُلع حسني مبارك وزين العابدين بن علي عن عرشيهما! من كان سيصدّق ذلك؟ الانتفاضات العربية حقّقت نتائج مذهلة، ما يدفعني إلى مقاربة الواقع العربي بشيء من التفاؤل»، تقول صالح، التي تطرّقت في إحدى أغنياتها إلى كابوس الفتنة المذهبية، ودعت في أخرى إلى إسقاط النظام الطائفي اللبناني.
حفلتاها تحملان إذاً نداءً إلى الشعوب العربية عموماً، والشعب اللبناني خصوصاً. إنّه في الدرجة الأولى نداء إنساني قبل أن يكون سياسياً. أهّم ما يميّز أغاني تانيا صالح أنّها تحثّ الجمهور على التساؤل، وتستدرجه إلى الحلم. لطالما كانت خطوات تانيا مدروسة، ربّما أكثر من اللازم أحياناً. وقد آن لها أن تنفلت من قيود الحسابات الفنّية، لأنّ جمهور الشباب متعطّش إلى سماعها اليوم، أكثر من أيّ يوم مضى.



9:00 من مساء اليوم وغداً ـــــ «مسرح بيار أبو خاطر (الجامعة اليسوعية) ـــــ للاستعلام: 01/999666