أكثر ما يتميَّز به يوسف رخا (1976) هو النظرة الثاقبة، والقدرة التحليلية الفريدة للنسيج الإنساني الاجتماعي لمكان ما، وعلاقة هذا النسيج بالعمق التاريخي والواقع السياسي. وهذا ما نراه في كتبه «الجغرافية» السابقة مثل «بيروت شي محل»، «بورقيبة على مضض»، «شمال القاهرة غرب الفيليبين»، حيث أقام مقارنة مُبطنة في خلفية نصوصه بين الأماكن/ الحالات المختلفة: إنكلترا، تونس، المغرب، لبنان، الإمارات، وبين مصر (القاهرة).
في باكورته الروائية «كتاب الطغرى ـــــ غرائب التاريخ في مدينة المريخ» (دار الشروق) يركّز رخا على قاهرته، ويستخدم أدواته كلها في تحليلها، ومحاولة فهم التحلل والتداعي الكئيب للبُنى الاجتماعية والسياسية والمؤسساتية والإنسانية فيها... يقارب ذلك في سياق حاضن للتفكك الحياتي الشخصي، المتمثل في تجربة زواج وطلاق بطله المدعو مصطفى الشوربجي. تشعر حين تقرأ الرواية، بأنّ كلّ أعمال رخا السابقة هي تمرين كتابي متقن لهذا العالم الروائي شديد الثراء والكثافة والعمق.
حين اكتشفنا يوسف رخا، كان أوّل ما لفتنا هو تلك العلاقة الشخصيّة التي تربطه بالتراث. هو الذي ينتمي إلى جيل جديد من الأدباء، تعدّت كتاباتهم عُقَد قتل الأب والانفصال الوعييّ والثقافي الزائف عن المنجزات السابقة. يبدو ذلك واضحاً في هذه الرواية، إذ يجوب الكاتب التاريخ العثماني ـــــ الإسلامي (مجسداً إياه في ظهور معاصر لشخصية تاريخية هي السلطان محمد وحيد الدين [1861 ــــ 1926]؛ آخر خليفة عثماني). ويتجول بموازاة ذلك في القاهرة المعاصرة، بما تحويه من آثار للفاطميين والأخشيديين والطولونيين. يجوب أيضاً عوالم الخط العربي بأشكاله الفنية ـــــ «الطُّغرَى» أو ختم السلطان العثماني، وهي شكل رفيع من أشكال فن الخط العربي الإسلامي.
كذلك يعرّج يوسف على عوالم التصوف: ابن عربي، عُمر بن الفارض، عبر الاقتباسات/ التضمينات، من الحلّاج، إلى جلال الدين الرومي، والكتابات التراثية من ابن خلدون إلى ابن إياس وابن بطوطة والمسعودي... تنقله اقتباساته بين القرآن، ولسان العرب، والمعجم الوجيز. وتنقله من بديع خيري إلى زياد الرحباني وسركون بولص. كل هذا من دون أخذ موقف أيديولوجي مبتسر. يتعامل رخا مع التراث بما هو نتاج بشري ممتد عبر اللغة والأثر في الزمن، وهو ما انعكس في تمكّنه من خلق معادل آني وعصري للغة الرسائل العربية، من خلال محاكاة خلّاقة للعلاقات الداخلية بين اللغة المحكية والفصحى. واستطاع بتمكّنه هذا، صنع سرد يستبطن اللهجات واللغات (الرؤيات) الأخرى أيضاً، إلى جانب البنية التراثية. كل هذا ظهر نتاجاً لغوياً يستحق الدراسة، في كيفية ترسيخ لغة أدبية أصيلة ذات خصوصية.
أهم ما يميز هذا العمل هو علاقته الحقيقية باللحظة الراهنة. عمل لا يمكن كتابته قبل هذه الفترة الزمنية، ولا بعدها. هذا العمل هو إفراغ لوعي متفرد مُدرك للمعرفة الجمعيّة المتراكمة (شرقاً وغرباً) في لحظة تاريخية ما، ينتج عملاً أدبياً أعاد للرواية معناها الأجمل: هو عمل عقلي معقد وممتع، يعبّر عن الوعي البشري بالحاضر التاريخي، ويسائله بصفته تطوراً عن ماهية الحالة الإنسانية وشروطها. عمل يخلق تجربة فنية تخوض وتتشابك مع الدين، والحب، والجنس، والموت، والإيمان، والعادات، والتقاليد والوراثة، والعلاقات الإنسانية، في ثراء فكري يضع قضية الهوية تحت الضوء.
بناء العمل يعكس أيضاً هذا الوعي المُركَّب، بالتقطيع الكرونولوجي المبتكر، وتعدّد الأصوات (مصطفى نايف الشوربجي والراوي). يعضده التوضيح الموازي لمسار الحكاية المقولب في «خطاب» على شاكلة الكتب/ الرسائل التراثية المُحققة: مقدمة (خُطبة الكتاب)، متن (الرسائل)، حواش (ملحقات ومرجعيات وتشكرات). بناء الجمل يُظهر اهتماماً خاصاً بالبحث عن الجِدّة وإثارة الدهشة والمتعة. فالأسلوب فاكهة أخرى تبعث على الإعجاب بقدرات رخا المتعددة في التقاط الحالة، والوصف، والعرض المليء بالعاطفة والمعنى الذكي الحاد، وقدرته على التناص مع كتابات أخرى متعددة تعدد مصادر معرفته ذاتها.
تحلُّل البُنى المكونة لما يُطلق عليه «دولة» وتفككها، جعلا مصطفى يبحث في العمق التاريخي بما هو منبع لفهم مسار تخلف المجتمع المصري، وعلاقته بالدين بوصفه مظهراً حياتياً وحلّاً حضارياً. لكن سرعان ما يكشف رخا، بمعادل درامي، زيف تلك العلاقة. أمجد صلاح، الضابط المتقاعد تحول إلى السلفية بعد انهياره العقلي. صديقه القبطي ميشيل فستق «المتلبرل» ليبرالية نفعية تخدم مصالحه الثقافية الضيقة، يظهر كماجن يبحث عن المتع الشبقة، ومتمسكاً في ذات الوقت بالقيم الدينية. البنت السمراء زميلته في الصحيفة، تشرب السجائر من وراء خطيبها، وتمارس السحاق في المصلى. زميلته الأخرى تحكم على الآخرين بمعايير مزدوجة متناقضة بين القيم الشرقية والقيم الغربية في تزاوج غير مقدَّس، كأنَّها مرآة لطليقته في الرواية «الواقعة بين الثقافتين».
وهؤلاء ـــــ في عين شخص يتداعى عقلياً ـــــ نتاج مشوّه لمجتمع متداع ومتحلل ومصطنع وهش، تتجلى أعظم مظاهر تحلُّله في «طلعان الميتين»، وهو تعبير مصري عن التضعضع وسوء الحال، استخدمه رخا ولعب عليه ببراعة، بما هو رمز لتحلل القاهرة وتحوّلها إلى قرافة تخرج الموتى وتطلقهم في الشوارع. ميتون/ عائشون (زومبيز)، متكدِّسون في علب معدنية بعجلات، يتمسكون بمظاهر دينية شكلية فارغة، ويتفرجون على أفلام هابطة، ويستمرون في الحياة/ الموت بمساعدة الحشيش.
في ضوء فقدان الهوية الإنسانية، نتيجة تجريف الحياة السياسية والاجتماعية، والحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية، يعيد رخا من خلال روايته تعريف ومقاربة مفاهيم مثل: الدولة، والأمّة، والمجتمع المدني، والانتماء، والوطنية، والمشروع الوطني، والتأسلم، والتدين، والهوية المصرية (أولاد الناس)، والليبرالية الحديثة، والتداخل والتمازج الثقافي، والاختلال القيمي الطبقي... كذلك يلعب ببراعة على هذه المفاهيم بطرح سياقات موازية ومضادة، موضوعها الدولة العثمانية في إطار لمشروع الأمة الإسلامية، وعلاقاتها المتشابكة مع الغرب، ثمّ الدولة التركية، وتحوّلها إلى العلمانية والحداثة الغربية على يد مصطفى كمال أتاتورك.
ما يجعل ليوسف رخا تلك النظرة البانورامية الدقيقة، هو عدم انتمائه مسبقاً لأي سياق منها: لا للثقافة الغربية التي تشابك معها عن كثب من خلال دراسته الفلسفة والآداب في إنكلترا، ولا للدين بصفته مسلماًَ بالولادة، ولا للعلمانية القائمة على إعادة هندسة عرقية لخلق مجال هويّاتي جديد. من هذا المنظور يقدم الكاتب المميّز مقاربة ما بعد حداثية للواقع المصري، في سياق الكشف عن أسباب التدهور الحاصل لبطله مصطفى الشوربجي وللمجتمع كله... تدهور أدّى إلى الانتفاضة، وفجّر «ثورة 25 يناير». حينها استرجع الـ«زومبيز» حياتهم وصوتهم. «كتاب الطّغرى» أهم حدث ثقافي في العام الحادي عشر من الألفيّة الثانية، بالتقويم الميلادي!



عمل أدبي درامي

في باكورته الروائيّة يبدو يوسف رخا متصلاً بالمعنى الأوّلي للكتابة: سرد القصص والحكايات وحفظها. لذا لم يتحول هذا البناء إلى أطروحات فكرية، بل ظل عملاً أدبياً درامياً، له ميزة الإنتاج الأصيل. وقد خلق لنفسه عالماً يتشابك مع الواقع، على عكس أعمال مصريّة كثيرة صدرت خلال العقدين الماضيين، ومالت إلى افتقاد الحبكة الروائية.