لن يكون معرض التشكيلي العراقي صادق الفراجي (1960) في دمشق ترفاً فنياً، ليس في مكانه ولا في زمانه. الأوجاع التي يمضي إليها الفراجي دوماً ـــــ من خلال مشاريع فرضت حضورها على نطاق واسع ـــــ هي جزء أصيل من أحزان المنطقة وتحولاتها. في العاصمة السوريّة الآن، سيبدو «في انتظار غودو» عنواناً عميقاً ومثالياً، لحالة الترقب والانتظار التي يعيشها أيّ سوري، في واحدة من أصعب الأزمات وأخطرها التي يشهدها تاريخ البلاد الحديث. تبدو عبثية صاموئيل بيكيت حاضرة بقوة في معرضه الذي انطلق أخيراً في صالة «أيام» الدمشقيّة، ويستمرّ حتى 30 حزيران (يونيو) الحالي.
أعمال تتجاهل جماليات الصورة أو التعبير، لمصلحة فضاء صامت، قائم على تكوينات حركية، وسواد يصدم العين، ويعيق قدرة التحايل عليه. لن يكون أمامنا إلا حالات متكررة من انتظار تحققت نبوءته في خمسينيات القرن الماضي. غودو لن يأتي الآن أيضاً، هكذا اعتدنا، وهذا ما فعله دائماً.
تأتي أعمال الفراجي من عوالم ذهنية واختبارية مختلفة. ميله البحثي الدائم، قاده إلى مشاريع بصرية، تشبه إلى درجة كبيرة صراعاً ذاتياً مع الواقع، ونظرياته الأدبية والسياسية. تلك القسوة المضمرة والعلنية، هي ردّ فعل على الكثير من الأحزان والآلام المخبوءة. لا يعاتب الفراجي واقعه الراهن بل يعود إلى التاريخ، يرتمي بين أحضان شواهد وأيقونات احتفت بالقسوة، كمحاولة منه لترويضها. شرب هذا الفنان «فنجان قهوة مع كافكا»، متماهياً مع المَسخ (أو الانمساخ) من خلال تجارب فيديو واسكتشات بالحبر، بعنوان «الوجه الآخر لغريغوري سامسا». أنجز أيضاً مشروع «عزيزي ريلكه كلنا مسافرون» الذي يمثل تعبيراً مدوياًَ عما يمكن أن يصل إليه الفرد المعاصر من تغريب، وضياع عميق ومؤلم.
متابعو تجربة هذا التشكيلي العراقي سيبدو لهم كأنه اختار تبني الألم: «أنا لا أرسم ترفاً، ولست باحثاً عن جمال، إنّما أحاول تعقل ذاتي والعالم... غير أنّ النتائج دائماً لا تعدو أن تكون نوعاً من البكاء». صوت الفراجي الصارخ دائماً يعكس ذلك التراكم المخيف لخيبات وأحزان غير مشفوعة بنهاية متوقّعة. مشروعه المؤلم «ذلك البيت الذي بناه أبي»، يضعنا على تماس مباشر مع ما يمكن اعتباره تخريباً للذاكرة الشخصية والجمعية. غرفة الأب، ملابسه، صورة الأم، تفاصيل كثيرة مسروقة تُطل عليها شخصيته «الحنظلية» التي كبرت وتضخمت لتكون شاهدة على كل هذه المآسي والتحولات. إلى دمشق تصل هذه الشخصية الأثيرة عند صاحبها، حاملةً معها خيباتها السابقة وما يشبه فقدان أمل في واقع يدفع إلى اليأس والاستسلام لوهم عودة غودو.
يجرِّد صادق الفراجي شخصيته هذه المرة من عوالمها الخارجية. التوظيفات الفنية والدلالية التي كانت تتداخل معها لبناء مشهديات مختلطة بين الرسم والفيديو، انحسرت لمصلحة بنائية جسدية وحركية صامتة، تؤكد مواجع داخلية عميقة. تتخلى هذه الشخصية عن عوالمها الخارجية، وتدخل في صراع داخلي قوامه العبث والترقُّب وسط كل هذه الخسارات التي لا تتوقف. لوحات معظمها بمقاسات متساوية (100 × 200 ـــــ طباعة لامبدا) هي قوام معرض الفراجي الذي يقدّم إلينا فرجة من نوع خاص. الخلفيات المتقشّفة، تؤسس لبروز تكوينات بعضها يستفيد من الجسد كاملاً، ومنها ما يركِّز على الرؤوس في وضعيات مختلفة. السواد الفج والمباشر، لا يحجب تلك العيون القاسية والقوية التي تبدو مضاءة بوهج داخلي عميق ومؤثر.
الاتكاء على مرجعيات أدبية وفلسفية، ميزة لا يتخلّى عنها الفراجي في كثير من مشاريعه البصرية التي تتنوع توظيفاتها الجمالية الدلالية. اليوم تتراجع الصنعة البصرية التي اعتدنا تنوّعها. تركيزه منصبّ الآن على خلق فضاء مجرَّد وساكن. سيبدو الصمت المحير رمزاً لشخوص عملاقة، تحتل المساحات، وتنظر إلى السماء في استجدائية واضحة. انعدام خصوصية الملمح، رهانٌ غرضه التعميم. فعلها الفراجي سابقاً في مشروعه «الهوية وجه لا ملمح له».
في معرضه الجديد، لا يبدو الفنّان الشاب معنياً بتقديم دلائل حرفية على ما يفعل. تبدو الفجاجة قيمة تتمثل في التأكيد على المعنى. التحريفات في بنية الجسد تخلق ظرفاً بصرياً وذهنياً، قوامه العنف والقسرية وتحريض الكوامن. لا ينجز الفراجي شكلاً نمطياً له مرجعيات في الذاكرة «في انتظار غودو». التأسيس المشاغب للوحة لا تنتصر فيها التقنية على المعنى، هو جزء من لعبته في تحويل الشكل والفعل البصري، من مجرّد حرفة، لكونه سلسلة وثائق تدين «الطاعون الذي ملأ الهواء». قد يأتي غودو... ربما يفعلها هذه المرة.

«في انتظار غودو»: حتى 30 حزيران (يونيو) الحالي ـــــ «غاليري أيام» (دمشق). للاستعلام: 963116131088+



سيرة


ولد صادق كويش الفراجي في بغداد عام 1960، وتخرّج من «أكاديمية الفنون الجميلة». غادر بلاده مطلع التسعينيات، وهو يقيم حالياً في هولندا، حيث تابع تحصيله العلمي في مجال التصميم الغرافيكي. منذ منتصف الثمانينيات، عرض أعماله في أوروبا وآسيا والولايات المتحدة وروسيا... ويعمل حالياً على إنجاز عمل بعنوان Told/ Untold/ Retold (محكي/مخفي/معاد)، سيعرض في افتتاح «المتحف العربي للفن الحديث» في الدوحة.