عندما خطف الموت بينا باوش عام 2009، كان السينمائي الألماني فيم فندرز يعدّ لمشروع مع مواطنته التي غيّرت مجرى الرقص المعاصر في العالم.
تخلّى صاحب «أجنحة الرغبة» عن الفكرة في البداية، إلا أنّ رفاق درب بينا، أصرّوا على إنجاز الشريط الذي يردّ لهذه الجنيّة النادرة بعضاً من فضلها على ذائقة معاصريها. هكذا دارت الكاميرا من دون Pina هذه المرّة!
التقى السينمائي بمصممة الرقص التي أسست تجربة خاصة انطلاقاً من ويبرتال، مراراً وتكراراً. كان يقول لها في كلّ مرّة إنّه لا زال عاجزاً عن فكّ شيفرة رسمها الكوريغرافي. كان يعبّر لها دوماً عن خوفه من الفشل في ايجاد معادلات سينمائيّة لنقل لغتها البالغة الخفّة والحريّة، ونظراتها الثاقبة، وطاقة جسدها المُعدية، إلى الشاشة. لكن في يوم عاديّ من أيار (مايو) 2007، وضع فيم فندرز للمرّة الأولى نظارات خاصة بالأفلام الثلاثية الأبعاد (3D). كان ذلك أثناء مشاهدة شريط U2 للأميركيَّيْن كاثرين أوين ومارك بيلنغتون، في «مهرجان كان».
الوثائقي الذي يتناول مسيرة فرقة الروك الأسطورية، جعل فندرز يدرك حاجته إلى نقل أعمال بينا باوش التي تصادف اليوم ذكرى رحيلها الثانية، إلى الشاشة الكبيرة. من هنا يمكننا أن نتفهم خيار المخرج بأن يكون الفيلم ثلاثيّ الأبعاد. فالعائق الذي كان يقف بينه وبين أعمال صاحبة «مقهى مولر»، لم يكن سوى جدار غير مرئي، أتاحت تكنولوجيا الأبعاد الثلاثة اختراقه على حد تعبيره. وجد المخرج ضالّته، لأنّه تخيّل نفسه وسط المشهد، وليس كمشاهد خارجي فقط. أحسّ بأنّه راءٍ يتقاسم الفضاء مع بينا وراقصيها. هذا ما بدا جليّاً في شريطه «بينا» المنجز بالتقنيات الثلاثية الأبعاد، وهو احتفاء بمسيرة الكوريغراف الألمانية الراحلة.
يفتتح فندرز الشريط مع نسخة بينا باوش من «تطويب الربيع» Le Sacre Du printemps، باليه سترافينسكي الشهير الذي سبق أن قدّمه موريس بيجار بدوره، وآخرون. تخترق مجموعة من الراقصين الرجال المجموعة النسائية الموجودة داخل الصالة. رفع الراقصون مستوى الحركة، ما يعطي المشاهد انطباعاً بأنّه يتابع عرضاً ما، على سطح سفينة تمخر عباب البحر الهائج. لكنّ تكنولوجيا الأبعاد الثلاثة بقيت مضبوطة بين يدي فندرز. فضّل المخرج أن يحترم الكادر المسرحي التقليدي الذي عملت بينا على كسره. لا بل إنّه ذهب حيث لم يتوقّع أحد، وتمكّن من استعمال التكنولوجيا الحديثة، كاستعارة لكيان باوش الحاضر على امتداد الشريط (١٠٣ د). يخرج فندرز مرّة واحدة عن خياره «المسرحي»، في لقطة فيها صخرة ومياه، إذ تلامس قطرات الماء عدسات المشاهدين لبضع دقائق.
احتاج السينمائي الألماني إلى ثلاثة أعوام ليتأقلم مع سينماتوغرافيا العصر. خلال المرحلة التحضيرية التي جمعته بالفنّانة، انتقت بينا العروض التي تودّ اعادة احياءها على الشاشة الكبيرة. زملاؤها وراقصوها البارزون، أمثال دومينيك ميرسي، وجولي شاناهان، ونزاريث باناديرو، وغيرهم، حاضرون في الفيلم الذي يفتتحه فندرز مع «تطويب الربيع»، ثم ينتقل إلى عملها الشهير «مقهى مولر». وينتهي الفيلم في مساحة تشبه المقبرة، حيث للرمزيّة مكان واضح وخاص. إحدى الراقصات تتسلم الرفش وتعمل على دفن أو طمّ زميلتها التي تبقى تتحرّك رغم عمليّة الطمّ. دقائق معدودة بعدها، نرى في ساحة خارجيّة، امرأة تتمشى بردائها الأحمر، وقد نبتت شجرة في جسمها. إنّها بينا باوش تحوم في الجوار، أو تواصل حياتها في وجدان معاصريها.
لا يرتكز نجاح فندرز بالأساس على سيناريو تعوّدنا أن يتحفنا به صاحب «أجنحة الرغبة». لكنّه يقوم في الدرجة الأولى على جعل رفاق درب بينا باوش مشاركين حقيقيين في إنجاز الفيلم، أكثر من كونهم مجرّد ممثلين. هذا ما أجاده السينمائي الذي أوجد مخرجاً لسجن السينما الثلاثية الأبعاد كما لمسناه مثلاً مع «أليس في بلاد العجائب»، وغيره من الإنتاجات الهوليوودية الضخمة. مع شريطه «بينا 3D»، يضع فيم فندرز العبقري حجر الأساس لطريقة مغايرة في التعاطي مع التكنولوجيا الحديثة. يقدّم المعلم مثالاً مؤثراً عن السينمائي الذي يقوّم التقنية ويسيطر عليها، وليس العكس. هذا كلّه بفضل حقيقة واحدة، أعلنها فندرز نفسه: «في عالم البصريات، قد نكون مبتدئين، مقارنة بالطريقة التي رأت بها بينا باوش العالم».