القاهرة | تسعة بوسترات أنجزها مصمّم الغرافيتي المصري أحمد اللباد، ووضع لها عناوين مثل «يا حلاوة العدالة»، «محاسبة»، و«تطهير»، و«لا نسيان»، و«لا تسامح» للتعبير عن مشاعره تجاه «ثورة 25 يناير» وإيجاز مطالبها. شأن الكثير من الفنانين والمثقفين، قضى ابن الفنّان الراحل محيي الدين اللباد غالبية «أيام التحرير» في الميدان. الثورة التي كانت مشتعلة، لم تمكّنه من العودة كثيراً الى مرسمه، ما دفعه إلى اللجوء الى مكتب صديق في وسط المدينة واستخدام «كومبيوتره الشخصي» لتصميم تلك اللوحات التي نزل بها الثوار الى «الميدان» فتحولت إلى أيقونات الثورة.
لوحات اللباد ليست أداة توعية.
بوستراته «أداة اشتباك مع واقع معقّد، تتبدل أكثر من مرة بين لحظات اليأس والأمل والرجاء. لحظات كان يستحيل معها التقاط الأنفاس، والتوقف لتأمل ما يجري، أو إنجاز عمل بصري له مقومات فنية قادرة على القفز فوق الراهن». أنهى أحمد تصميم لوحاته، وتوقف أمامها يحرّكه شعور بالخوف من عدم اكتمال الثورة. إذ بدأ بعض الناس مكافحتها تحت شعار «كفاية كده، أو تعالوا لنهدأ ونلتقط الأنفاس ونمنح الحكومة الجديدة فرصتها».
أمام عبارات من هذا النوع، أصيب اللباد بالقلق والخوف من عدم القدرة على استعادة الحشد من جديد، لكنه رفض تحوّل تلك اللوحات إلى مادة للاستهلاك السريع. لذلك، لم يكن مهتماً بنشرها جماهيرياً أو استغلالها كـ«موتيفات» بصرية على أغلفة الكتب التي يصمّمها: «لم أكن راغباً في تسجيل موقفي أو الاستعراض. ولن أقيم معرضاً لها اليوم». اكتفى المصمّم الشاب بأن تكون أعماله تلك وسيلة لتوثيق اللحظات التي عاشها في الميدان، والاشتباك معها على طريقته. أو كما يقول: «أردت فتح طريق لتعامل مغاير مع الثورة كفعل جمالي».
الثورة التي عاشها اللباد الابن في الشارع يصعب عليه تناولها من دون التوقف أمام محتواها الجمالي: «الخيال البصري كان مفاجئاً. الثورة كانت أكبر معرض مفتوح عرفه العالم. تنافس المواطنون على ابتكار أدوات للتعبير عن مواقفهم السياسية بطريقة جمالية أظنها لن تتكرر». ويواصل: «هناك من كتب لافتات مذهلة، وهناك من رسم على جسده. والأهم أنّ كل هذه الوسائل وجدت من يتأملها، ويتعاطى معها، ويناقش صنّاعها. وهي فرصة لم تتح حتى لفنانين محترفين قدموا أعمالهم في أكبر قاعات العالم». وكمثال على الابداع العفوي الذي احتضنه الشارع المصري خلال تلك الأيّام التي هزّت العالم، يستعيد أحمد اللباد صورة ذلك المواطن البسيط الذي صنع قفصاً حديدياً، ووضع داخله سلحفاة، ثم كَتَب أمام القفص عبارة واحدة هي «العدالة».
اللباد الذي صمّم أغلفة أكثر من 1000 كتاب خلال عشر سنوات، تاركاً بصماته على الهويّة البصريّة لدور نشر مثل «ميريت» و«العين» و«البستاني» وسواها، يرى أنّ القدرة على الاختزال هي أهم ما رآه في الميدان. وهذه القدرة هي التي قادته إلى إنجاز لوحاته ليراها أفراد في مجتمع صار قابلاً لكل أنواع التعبير. الملايين التي خرجت إلى ميادين مصر امتلكت ربما للمرة الأولى القدرة على التعبير الحرّ الخلاق الذي جاء حافلاً بالتنوع أيضاً.
خلال الأيّام الأولى للثورة، أمضى أحمد الكثير من وقته معايشاً الحدث من خلال العدسة. لكنّه ملّ سريعاً من هذا الدور، وفضل الانخراط في الحشود: «رأيت أنّه في الثورة يصعب أن تؤدي مهمة يمكن أن يؤديها غيرك بنجاح أكبر. لذلك، تركت الكاميرا وفضّلت التظاهر». لكن مع انقضاء أيام التحرير، عاد اللباد للإمساك بآلته الفوتوغرافية كي يسجّل ما يراه على جدران المدينة. الغرافيتي الذي شهد انتعاشاً لافتاً في الشارع المصري يبدو له سجلاً دقيقاً لأحداث الثورة، وساحة من ساحات التوهّج الذهني الذي ولّد مئات الأفكار المهمة. وما إن ينتهي أحمد من التصوير، كان يباشر في تصنيف الصور والعلامات البصرية واللافتات وفق الموضوع والتاريخ.
ويلفت اللباد إلى عملية «محو الأثر» التي عاشها الميدان لاحقاً: «تصورت أنّ الثورة ستدفعنا إلى إعادة التفكير في قيمة التراكم. من المؤسف أنّ ميدان التحرير تعرض لعملية محو رهيبة لآثار الثورة. بداعي التنظيف، بدأت إزالة كلّ الرسوم والكتابات التي ظهرت خلال الأيام الـ 18 السابقة لتنحي مبارك. بسحر ساحر أزيلت كل أشكال الغرافيتي عن الجدران. هكذا باسم «تجميل المدينة»، بدأت عملية اعتداء على التاريخ. ويختم أحمد: «شعرت أن دعاوى تطوير ميدان التحرير تشكّل اعتداء شخصيّاً على مخيلتي. والمطلوب تبني حملة لمواجهة هذا الاعتداء لتثبيت لحظة الثورة العظيمة».