صدور «الآخر» لصاحبيها أدونيس (الصورة) وحارث يوسف، في زمن الثورات العربية ليس مصادفة. هي تصبو إلى الإسهام، على طريقتها، في تقدّم الحراك العربي من أجل إنسانيّة أفضل وعلى طريق التحرر من القيود التي تأسر الإنسان العربي وتحوّل حياته «إلى عالم رهيب من المصحات والمستشفيات السياسية ـــ الاجتماعية». هذه الفصلية التي تقدّم نفسها كمجلّة للذات والآخر، تريد أن تكون مساحة انفتاح بامتياز. تعالج «الآخر» مواد من مجالات متنوّعة. تضع في متناول قارئها مواضيعَ تتعلّق بالفلسفة، والأدب، والشعر، والفن، والموسيقى، وعلوم النفس والسياسة والإنسان. كذلك تنشر مقابلات مع أشخاص لهم عطاءاتهم في عالم الفكر، وتغني بعض مقالاتها بمادة بصريّة لافتة. حجمها المكتنز، وقياسها الكبير، وخطها العريض، وتصميمها السلس، كلّها تفاصيل تجعل قراءتها أمراً ممتعاً.
في العدد الأوّل، لفت انتباه القرّاء ملف مخصص لأحوال الفلسفة العربية المعاصرة، تناول مسائل خطيرة كعجز العرب عن تقديم فيلسوف منظّر على مستوى العالم. وهذا التحري الفلسفي، يأخذ كامل معناه في ضوء الثورات العربية التي ينكبّ عليها العدد الثاني، من وجهة نظر الشباب السوري. هذه الثورات ولدت من رحم تألّم الشعوب العربية الرازحة تحت نير الفقر، والبطالة، والدكتاتوريات، وغياب العدالة. هذه الشعوب التي أرادت التحرّر ممّا يكبل ذاتيّاتها، هي نفسها شعوب تنحو بغالبيتها منحى الحكم الديني والمنطق الديني، ضاربة عُرض الحائط بكل منطق مدني أو علماني يمكن أن يولد مساحات فكرية يمكنها التأسيس لتحرير الذات، أقلّه كما تنظر إليه الفلسفة. لا ريب في أنّ السؤال الفلسفي لا يتعارض مع السؤال الديني. وقد أثبتت ذلك مدارس فلسفية مسيحية وإسلامية ترى التأويل علماً ضرورياً لكل فهم مناسب للنص. لكن السبل الدينية الآنية في العالم العربي، بتأويلاتها العقائدية الإطلاقية، وإصرارها على الترجمة السياسية لهذه الإطلاقية، ستبقى حاجزاً منيعاً ضد كل أرضية تسمح بتحرير الفرد وبلوغه حدّاً أدنى من الوعي الذاتي. هذا الوعي تعدّه الفلسفة مؤسساً لإنسان جديد، متحرر من هيمنة التديّن المُغرِّب والتبعيّة لغرب لم ينته من ابتداع طرق جديدة لاستعمار أرض العرب. تجربة «الآخر» تندرج في هذا السياق، إذ تشرّع صفحاتها على الأفقين المعرفي والنقدي، وترفع لواء الجرأة والفكر الكفيلين في إيقاظ الفرد العربي من سباته الثقافي العميق.