حين تأخذك قدماك إلى شارع الرمال، سترى مجسماً للقدس متربعاً هناك: "مطعم وحلويات القدس العتيقة" هو مجهودٌ صغير لأربعة أسرى مُحرَّرين، مُبعدين من مدن الضفة الغربية إلى القطاع: نادر تركي من الخليل، محمود صلاح من نابلس، جاسر البرغوثي وربيع ياسين من رام الله.
كانت الفكرة لنادر رضوان تركي (41 عاماً)، تم تبادله في صفقة (الجندي الاسرائيلي) شاليط. يقول: "كانت هناك معايير لإخراج الأسرى من سجون الاحتلال في صفقة شاليط، ولحُسن حظي كنت واحداً من أولئك الذين تنطبق عليهم تلك المعايير، فقد كنتُ أُعاني من مرض في عينيّ، فكانت لي أولوية للخروج".
مطعم على شكل قبة الصخرة من الأعلى، دائري ومزخرف بأشكال هندسية إسلامية، يروِّج لمأكولات وحلويات بنكهة وبهارات ضفاوية، كالشاورما والمسخن وحلويات كحلاوة الجبن والنابلسية على أصولها.
سألته: ألم تفتتح حال خروجك من السجن محل النابلسي للحلويات، كان رائعاً لماذا أغلقته؟
أجابني بحرقة: "نعم وافتتحت عدة محلات وفي كل مرة كان يستغل من حولي اسم المحل ويقلده، وفي مرات أخرى كان يتم الاحتيال عليَّ بطريقة أو بأخرى"!
ابتلع ريقه، وتابع بعدها: "لذا حين تسأليني عن شعوري حين أُبلغت بإبعادي إلى غزة، سأقول لكِ فرحت للخروج، وتمنيت لو أذهب ركضاً لعائلتي وابنيَّ، هوَّن الجميع عليّ بأنني في غزة سأكون في بيتي الثاني، ولكن اكتشفت بعد ذلك بأني في بيت الجيران، وأن الضفة وطن وغزة وطن كلاهما مستقلُ عن الآخر"!
لم أستطع قول كلمة. فواصل كلامه: "فقدتُ عائلتي بسبب الإبعاد، زوجتي لم تحتمل أن تترك الضفة كثيراً، لذا حين جاءت لم تكمل الأربعة شهور وعادت إلى هناك مع أولادي، أنا حين يمرض ابني، لا أستطيع أن أكون بجانبه، حين يأتي العيد، حين أتعب لا أحد يكون حولي، الحقيقة أني وحيد ومُبعد عن وطني!"
الصمود في وجه خسارة كل شيء أمرٌ ليس بتلك السهولة، "تركي" كان يُناضل في السجن، وبقيَ كذلك حين خرج للحرية. حُرم من أمه ومن بلده في الضفة، وقف ونفضَ عنه غبار الحُزن وواصل.
قضى الكثير من عمره في السجن: 13 عاماً تقريباً، بتهمة تشكيل خلايا عسكرية وتجنيدها ضد الاحتلال، بدأ مسيرة المقاومة من عمر 16 عاماً، حين كانت المُقاومة حجراً.
حين تُجالسه تعرف بأنه يُعاني شيئاً في عينيه، ثمة مرض ودموع ترفض الهزيمة أو التنازل.
يقول مُكابراً: "لم أكن أُعاني من شيء في عينيّ، ولكن هذا من أساليب تعذيب الاحتلال في السجون، حيث كانوا يضعون على وجوهنا أقنعة تُصنع من ملابس الجيش، وتكن خشنة، جميع الأسرى يتم إجبارهم على ارتدائها في التحقيقات، وطبعاً لا يتم غسلها أو تغييرها، لذا نقلت لي جراثيم وميكروبات لعينيَّ سببت لي التهابات حادة، والآن أنا بحاجة إلى زراعة قرنية، وبحاجة الى السفر للعلاج.. حيث أن الاحتلال وقبل خروجنا قام بإعطائي أبراً تحتوي على فايروس الكبد الوبائي"!
تعذيبٌ وقهر، بشاعة الاحتلال تتجلَّى في أبشع صورها في السجون وفي التعامل مع الأسرى، لا أحد يحمينا أو يحمي أي فلسطيني من كل الجرائم التي ترتكب في حقنا نحن أصحاب الحق.