أوّل صورة تتراءى لنا حين نذكر فيلم «حروب صغيرة» (108 د ـــ 1982) هو وجه ثرّيا. ليس لأنها الأنثى الوحيدة في العمل، بل لأنها في عدسة مارون بغدادي ـــ الذي سيصبح زوجها في ما بعد ـــ صورة مختلفة، غير نمطية، للأنثى في زمن الحرب.
تقول ثريّا خوري بغدادي لـ «الأخبار» إنّه منذ رحيل مارون بغدادي (1950 ــ 1993)، دُعيت مراراً إلى الكلام عن دورها في «حروب صغيرة». لكن حين تغوص في الماضي من جديد، تُدرك أنها لم تعد ثرّيا، تلك التي في الماضي. يغذّي إدراكها ما عاشته ورأته على مرّ السنوات.
تقول لنا: «لم يكن دوراً مكتوباً. مارون كان يبحث عن شخصيّات حقيقية موجودة لفيلمه. ثريّا، أي أنا، رأى فيها الفتاة البورجوازية، الفرنكفونية، التي كانت تملك الخيار بين البقاء والرحيل. كانت لديها الحرّية والإمكانية، لتتفادى جحيم الحرب، وتتفادى أخذ الموقف أو المقاومة أو الشعور بالواجب، وتهرب من الصراع إلى الخارج، كما كانت تملك القرار بأن تبقى من أجل من تحبّه».
تضيف بطلة «حروب صغيرة»، مذكرةً أنّ ثيمة الهجرة موضوع ملازم للتاريخ اللبناني، خاصّة لدى الأقليّات المسكونة بذلك الخوف من الاضطهاد، الخوف من الآخرين، المخاوف التي لا يبعدها إلّا الحبّ كما تقول. «ثرّيا خائفة، لكنّ حبّها لطلال يدفعها للنضوج». وتكمل: «في مواجهة رعب الحرب، والموت، تعيش ثريا وأصدقاؤها في فوضاهم الخاصة، بإنكار للواقع وتهوّر غير مسؤول أحياناً، كأن لا شيء يجري من حولهم. طلال يلبس دور زعيم عشيرة، ثريا تنظم عملية خطف، نبيل يعيش في خياله. هم أيضاً يهربون من أنفسهم، إلى المخدرات إلى الجنون. ردّات فعلهم تصبح غير مجدية، غير منطقية. ولو خرجوا من هذا العالم سليمين جسدياً، سيبقون ضحايا».

رافق بكاميراه مقاتلين
على الجبهة ليكون شاهداً
على ما جرى

ماذا كان مارون بغدادي يريد أن يقول عن الحرب في «حروب صغيرة»؟ تذكّر ثريا أنه كان قد أنجز «بيروت يا بيروت» عام 1974، الذي قدّم لما سيأتي بعد. لم يكد الفيلم يخرج إلى الصالات، حتى بدأت الحرب. تقول إنّ مارون لم يُرِها يوماً هذا الفيلم. كان يقول لها إنّه ضاع أو احترق، «كأنه كان يتمنى لو أنه لم يقم بإخراجه». وتضيف أنّ التجربة الثانية، أي «حروب صغيرة» بدأت بعد الأولى بقليل أي عام 1975. كان مارون يريد أن يروي قصّة حميمة عن شابين وفتاة. كانت أحداث قصته تدور في القاهرة، وكان يريد أن يعمل مع نور الشريف آنذاك. «لم يكن يوماً يريد التكلم عن الحرب بطريقة مباشرة. كان قد رافق أصدقاء له مقاتلين، كان يحمل الكاميرا ليكون شاهداً فقط».
عام 1980، تعرّفت ثريا إلى مارون خلال كاستينغ «حروب صغيرة». تضيف: «كان حينها قد بدأ يعمل مع فرنسيس فورد كوبولا في الولايات المتحدة. عام 1981، كتب لنا أنه يريد تصوير الفيلم في بيروت، بعدما تخلّى عن مشاريعه في الولايات المتحدة». تتابع: «بعد رحيله، وجدت أجزاء من هذا السيناريو، ورأيت كيف تحوّل الى قصّة ثلاثة غيّرتهم الحرب، أعتقد أنه خلال سفره إلى الولايات المتحدة، قرر أن يكتب ما يعيشه».
تقول إنّه يعتقد أن الحرب بلا جدوى بعد مرور خمس سنوات على تأملها، وأنه فهم اللعبة. لم يعد يجد نفسه في صفّ حتى من يميل إليهم. ينتقد بشدة، خاصة منطق عودة كلِّ إلى قبيلته أو عشيرته أو طائفته. هو الذي ينتمي الى مدرسة الحوار وتقبّل الآخر، ترك منزل أهله في الأشرفية وانتقل إلى الصنائع.
«أراد مارون أن يعرّي الحرب، أن يجرّدها من غموضها. أن يشدد على أهمية القصص الصغيرة في حياتنا. على دور الحروب في نزع الإنسانية، خاصة الحروب بين الإخوة».
عن تجربة «حروب صغيرة»، العمل المميّز والفريد في مسيرة سينما المؤلف اللبنانية، تقول ثريا إنّه مختلف لأن الحرب كانت خارج الإطار، أو خارج الكادر، «كان فيلماً مُجدداً في طريقة التصوير، والسيناريو، والحوار، خيار مواقع التصوير، مع ممثلين لا يمثلون، وصورة وموسيقى جميلتين. معه اتخذت سينما المؤلف منحى آخر».
لم تسنح لمارون بغدادي الفرصة لأن يتكلم عن لبنان خارج إطار الحرب. أراد أن يقفل حسابه مع الحرب نهائياً، فيما كان يحضّر لتصوير «زوايا»، العنوان الذي اختاره حين شرع بكتابة السيناريو مع حسن داوود. لم يعش مارون ليبصر هذا العمل النور. غادر عام 1993، بالطريقة نفسها التي أراد أن ينهي بها حياة الشخصية الأخيرة في فيلم «زوايا».

عرض فيلم «حروب صغيرة» لمارون بغدادي: س:19:00 مساء اليوم بدعوة من «نادي لكل الناس» ـــ مركز «تيار المجتمع المدني في بدارو» (مبنى الحركة الاجتماعية - الطابق الأول) ـــ للاستعلام: 03/031562