القاهرة | مرّ عام هجريّ كامل على وصايا محمد أمين راضي وخالد مرعي. مضى رمضان وأتى آخر، وها نحن الآن أمام «العهد»، اللغز الذي اختلف بشكل جذري وتام عن كل المعايير التي بُني عليها مسلسل العام الماضي «السبع وصايا». في العام الماضي، ناقشت «الأخبار» مسلسل «السبع وصايا» مستعينة بحوار مع الكاتب محمد أمين راضي مؤلّف العمل (الأخبار 10/7/2014). كانت كلمات راضي مقتضبة بشدّة، ولم يكن هناك أي مجال للإفصاح عن أي شيء يخصّ سياق الأحداث، وكانت الردود أغلبها في إطار الجوانب الفنيّة والبناء السرديّ للقصة، بعيداً عن سير الأحداث.
في مضمون «السبع وصايا»، كان العمل يسير على هامش الخرافة، بمعنى أنّ أحداث المسلسل كانت توحي بوجود قوى غير طبيعية. أرواح تتحكّم بالبشر، رؤى مركّبة تتحكّم بتحرّك الأبطال، ولكن في النهاية كان يظهر لكل حدث تفسيره المنطقي البعيد عن الخرافة والميتافيزيقا. بهذا، كان «السبع وصايا» يسير على نطاق المنطق المتحكّم بالأحداث والخرافة المتحكّمة بعقول البشَر.
أمّا حين نتحدّث عن «العهد»، فنحن أمام عمل دراميّ خياليّ يسير على درب الخرافة الشعبيّة، يشبه إلى حدّ كبير أساطير الحكي الشعبي، إلا أن التداخل العميق والتشابك المُحكم بين الشخصيات والأحداث يجعل من «العهد» عملاً درامياً ذا بُعد أدبي حقيقي. فالخرافة هنا تخدم الحدث، والقوى الخفيّة المسيطرة إلى حدّ كبير تعمل على تقديم التسلسل الدرامي في إطار غير متوقّع. فموازين القوى والضعف تختلف من حلقة إلى أخرى، وجوانب السرور والسخط داخل كل شخصية تضطرب وتتباين بين المشهد والذي يليه. أما البصمة الباقية في العمل الفنّي لهذا الفريق فهي عدم وجود خير مُطلق أو شرّ مُطلق، كما لا يمكن للمشاهد أن يحدّد الفريق الذي ينحاز إليه خلال الأحداث. فليس هناك فريق يعمل على نشر الخير الطفولي ليقتل الأشرار ويثني على الأبرار، فليس هناك أشرار ولا أبرار من الأصل. حتى مهيب (آسر ياسين)، الشاب الذي رأى أمه وهي تقتل والده ليهرب وهو طفل ويشب في الجبل بين الثعابين والصخور الصمّاء، لا يمثّل هنا شخصية الفارس المغوار الذي يسعى إلى نشر الخير والسلام. فهو يخطئ كثيراً ويتهوّر كثيراً، إلى درجة أنه تسبّب بموت أطفال من «الكَفر» بلدغات الثعابين التي أطلقها على أهل مُلكه الضائع.
وربّما أفضل ما في تلك الشخصية وتركيبتها المعقدة هو التهوّر والرعونة، وهنا لم يسقط المؤلف في فخ سندباديّة البطل الذي تغرّب وعاش في صحراء وسط كائنات بشعة، بل رافقها وأصبحت هي عائلته، وتجلّت في شخصيّته صلابة الجبال وتحجّرها، وغدر الحيّات ومكرها. فـ«مهيب»، الطفل الذي كبر واشتدّ عوده بين الجبال، عاش أغلب سنوات عمره في ذلك المكان بتلك النزعة الانتقاميّة، أهو انتقام للخير أم للشرّ؟
لا إجابة محدّدة لهذا التساؤل، إذ إن «مهيب»، شأنه شأن أيّ بشريّ آخر؛ يرى أن مفهوم الخير هو غايته ومفهوم الشرّ هو جُملة الآخرين. حتى إنّه حين يختلف مع «مشعل» (ياسر المصري) الذي عاش معه طوال سنوات غربته في الجبل، يخرج من داخله ذلك الوحش الذي هو مزج بين نعومة الحيّات وصلابة الجبال التي عاش بينها. يختلف معه في تفاصيل وملابسات الوسيلة رغم توحّد الغايتين إلى حد كبير جداً بينهما.
وإذا تأمّل المُشاهد في شأن تباين القوّتين بين «مشعل» الذي هرب شاباً و«مهيب» الذي هرب طفلاً، سيجد أنّ ذلك التباين يعود إلى السنوات التي عاشها كل منهما بين البشر. فـ«مشعل» عاش سنوات شبابه بين أهله وأهل الكفر، بينما «مهيب» لم يرَ جنس مخلوق طوال تلك السنوات سوى «مشعل» والثعابين التي رافقها، بل أصبح سامّاً مثلها، يقتل بمجرّد اللمس.
وعلى الجانب الآخر، هناك «سحَر» (غادة عادل)، التي وُلدَت من جديد في هذا العمل الفنّي، وهي حفيدة «استمنّوها» (سلوى خطاب) التي اختطفها «خليل» (خالد كمال) الذي عاون «جومر» (شيرين رضا) والدة «مهيب» في قتل «الكبير». اختطفها «خليل» أم نقلها لتحيا بعدما تعاطف معها؟ هنا، أجاب «خليل» حين سألته «جومر» بأنّه لا ينكر أنّه تعاطف معها، لكنه أيضاً أخذها كي تكون ورقة ضغط في يده للحصول على العهد من «استمنّوها». «سحر» هي حفيدة هذه «جومر» وابنة «مشعل»، وبعدما أخذها «خليل» لتربيتها في بيت «الكبير» بعد زواجه بـ«جومر»، قرّر لها أن تعيش وسط الناس بشخصيّة «مهيب» ليحكم هو و«جومر» الكفر من خلالها.

مسلسل خيالي يسير على
درب الخرافة الشعبيّة


مع طفولة «سحر»، اكتشف «خليل» و«جومر» أنّها تمتلك قدرات غير طبيعية في شفاء المرض وإنقاذ المريض من الموت، حتى إنّ أهل كفر القلعة كانوا يأتون لكبيرهم «مهيب» ــ الذي لا يعلمون أنّه في حقيقته ساحر ــ بالمرضى ليشفيهم.
وكبرت «سحر» ليكبر معها شخص «مهيب» الذي تعيش به وسط الكفر. الشخصيات المتداخلة السابق ذكرها والأحداث المتشابكة أيضاً ليست هي كل شيء، بل إن هناك شخصاً يدعى «الضوّي» (صبري فوّاز)، ربّما هو أقرب الأجرام البشرية في المسلسل إلى الشرّ المُطلق.
تتجلّى في شخصية «الضوّي» تناقضات وتباينات رجل الدين الساعي إلى السُلطة، فهو الذي قتل «استمنّوها» حاملة العهد، وهو الذي طرح فكرة تأليف عهد جديد والسير على العهد المحرّف. «الضوّي» يتحكّم بطائفة الحشاشين من خلال ابنته «سوسن» (كندة علوش). يقتل ويحكم ويتحكّم من خلالهم، يحبس وينفي ويختطف بتلك الأداة التي امتلكها بسُلطته الكهنوتيّة التي منحها لنفسه. وشخصيّة «الضوّي» يجسدها صبري فوّاز باقتدار غير مفاجئ، لكنّه أكثر قسوة من المتوقّع.
هي محور الأذى وتبعثر الأوراق وإعادة ترتيبها كل حلقة خاصة بعد زواجه بـ«سجاج» (هنا شيحة) التي قتلت أمّها وإخوتها وجدّتها ثم تزوّجته لتحكم كفر «نطّاط الحيط». أمّا ريّا (صبا مبارك)، فهي كبيرة كفر النسوان التي قتلت أباها كي تحكم الكفر بقوانينها الغريبة التي تحرّم خروج الرجال.
وفي غضون ذلك، تُبعث روح «استمنّوها» الهائمة لتحاول تحريك الأحداث سواء بالإيحاء أو بالظهور المباشر. ثم تقابل «مقدّر الأرواح» ليمنحها قدرات التعامل مع البشر والانتقال بهم من مكان لآخر، لتقوم سلوى خطّاب بدور المتحكّم المغلوب على أمره، الروح القاصرة أو صوت الماضي الذي يحاول إعادة الأمور إلى نصابها.
كل تلك السلسلة المعقّدة التي شغلها محمد أمين راضي، والتي تدور لتقطر منها الدماء تحوي بداخلها نقطة نور نقيّة تسمّى «علاء» (أحمد مجدي). ذلك الشاعر النظيف المسالم الذي أحب «سوسن» منذ طفولتهما وحتى شبابهما. «علاء» الذي كشفت له حقائق الأمور من خلال رؤية هام فيها ليرى أحداثاً من المستقبل. «علاء» هنا هو نقطة النور الشفّافة التي تتحرّك بسلاسة، تخدمها القدرات الفنيّة المتميّزة للفنان أحمد مجدي الذي يقوم بتقديم الشخصية بشكل بارع وبسيط مفاجئ للجميع.
هو الباحث عن الحقيقة ولا يسعى لأيّ سُلطة، وربما يأتي تميّزه من هنا، فهو لا ينظر للحكم والتحكّم بعين راغبة بقدر ما يبحث عن الحق. وبتلك الصفات يصبح «علاء» الذي لا يملك أحقيّة الحكم والسُلطة، هو من يملك الحق في منصب الشاهد على الأحداث والراوي الأمين لكل التفاصيل.
المسلسل قد يحمل إسقاطات عقائدية واسعة وعميقة بين توظيف العقيدة المنزّلة لمصالح دنيويّة، وبين إعادة صياغتها في غفلة البشر لخدمة سلطان بشريّ. وقد يحمل إسقاطات سياسيّة بين ضرورة بقاء الشعوب في خطر لاستمرار تسلّط الحاكم وتحكّمه في مجريات الأمور، واستمرار سلسلة الدم المتشابكة بين الجماعات والأفراد. وكذلك إسقاطات اجتماعيّة ونفسيّة تربط الصراع الداخلي للإنسان بصراعات الجماعات والأقوام. كُل تلك التفاصيل المتميّزة تغلّفها الموسيقى التصويرية للفنان هشام نزيه الذي استعان بأحد الألحان القبطيّة المصرية القديمة كخلفيّة صوتيّة لمشاهد المسلسل بصوت الفنّانات شيرين عبده، وفاطمة عادل، ونغم صالح.
بالاختلاف أو الاتفاق مع «العهد» كمسلسل، وبالرغم من أيّ شيء، فالتفاصيل السالف ذكرها تجعلنا أمام عمل مختلف ومميّز بالنسبة للدراما المصريّة التي عانت لسنوات من مشاكل الضحالة والضعف في عدد من الأعمال المقدّمة. كما عانت من التسطيح وتقديم الرؤى المتّفق عليها مجتمعياً. «العهد» عمل فنّي يضيف لرصيد القائمين على صناعته ويضيف لرصيد الشغف لدى المشاهدين.

* «العهد» يومياً بتوقيت بيروت 00:00 على قناة «حكايات» و18:00 على «mbc دراما»