بداية من أسامة أنور عكاشة (1941 ـــ 2010) وصولاً إلى جهة محفوظ عبد الرحمن (1941 ـــ 2017)، نجح كاتب الدراما العربية في الصعود إلى الواجهة بعدما كان نجوم التمثيل يحتكرونها، وتبقى صورهم بطاقة التعريف الوحيدة لتلك الأعمال. لقد كانت نقلة نوعية وحاسمة لافتة في تاريخ تلك الدراما، قبل أن تسقط في وحول هذه الأيّام حيث صارت الأسماء المجهولة تتصدّر واجهة كل شيء، في الحياة السياسية والثقافية على حد سواء.
كان الحضور بأسماء كُتاب الدراما، قبل أن تظهر صورة المُخرج المؤلف، أو ظاهرة تعريف الأعمال بأسماء مخرجيها. كأن يُقال «مسلسل للمخرج الفلاني» على سياق ما حصل بداية مع الأفلام السينمائية في زمن يوسف شاهين أو صلاح أبو سيف ومن جاء بعدهما، داود عبد السيد وحتى رضوان الكاشف.
وإن كان الراحل الكبير أُسامة أنور عكاشة قد انطلق في إنتاج الكتابة الدرامية من قاعدة شخصية تمسّ حياته وتجربته الناصرية، مشمولةً بحجم الخسارات والنكبات التي حملها في قلبه وأعاد تحميلها لاحقاً في سطور كتابته، فقد نجح محفوظ عبد الرحمن في تجاوز تلك النقاط (الناصرية) وهو من الكبار الذين حملوا رايتها. نجح في تجاوز الشخصي، والانتقال لتفكيك الحالة السياسية والاجتماعية على نحو عام، ناطقاً باسم كثيرين.

نجح في تفكيك الحالة السياسية والاجتماعية، ناطقاً باسم كثيرين

لا يمكن في هذا السياق، إغفال الأعمال التي أنتجها عكاشة وهي ترفع في غالبيتها نقطة الخسارات الشخصية المتتالية، خصوصاً العاطفية، معكوسة على مرآة المرحلة الناصرية. لقد فشل كاتب «ليالي الحلمية» في التخلّي عنها وقد ظهرت في صورة الفنان الراحل ممدوح عبد العليم في غير عمل لعل أبرزها «ليالي الحلمية» نفسه، كما و«الحب وأشياء أُخرى». وكانت الفنانة آثار الحكيم شريكاً أساسياً في العملين، وبخصوصهما دارت حكايا كثيرة حول تعمّد عكاشة المرور على سيرة شخصية تعنيه وحده عبر إعادة المرور عليها من أكثر من جهة. لقد كانت قصص الحُب المُنهارة انتهت مسحوقة تحت أقدام الرأسمالية المتعفنة وقد أتت كبديل تافه للمرحلة الماضية... تلك الفوارق الطبقية التي دفعت الناس لتبديل أخلاقهم، وارتداء ما لا يليق بحياتهم الأصلية لتظهر على نحو زائف.
في المقابل وعبر هذا كله يمكن النظر لمحفوظ عبد الرحمن، صانع «بوّابة الحلواني» الذي كتب مرة في سياق مسرحيته «ما أجملنا» (1986) ما يشير إلى أن «الانسان قادر على احتمال الندم، لكنه غير قادر على أن يسمع أخطاءه من شفاه الآخرين». من هنا يمكن السير في محاولة فهم كاتب فيلم «ناصر 56» وتلك الهواجس التي نجحت في كبح لذة الحكي على وتر الندامة والأسى، والابتعاد عن الشخصي وانكسارات الذات من خلال تركيز السرد على نقطة الهم الجمعي ولو جاء هذا كنوع من التحايل، والقفز على أوجاع الهزيمة والتوقف عند لحظة الانتصارات الناصرية. تأميم قناة السويس مثالاً وعدم تجاوزها إلى حد مقاربة الهزيمة العربية في 1967. ينسحب كل هذا على أعمال تالية، كفيلم «حليم» ومسلسل «أم كلثوم». التقاط النقاط المُبهجة من داخل أطنان السواد والأحزان.
لا يعني هذا تلميحاً إلى إصرار محفوظ على تلميع الزمن الماضي أو محاولة إظهاره على غير الصورة التي كان عليها، بل على العكس من ذلك. إنها تلك الموهبة القادرة على وضع أصابعها على لحظات البهجة في قلب الزمن الفائت، وإعادة تقديمه على نحو يمنح المتلقي نقطة نور تجعله قادراً على رؤية الخطوات القادمة على الطريق. كل هذا على نحو مغاير أو مضاد لحقيقة ما جرى. يمكننا والحالة هذه الكلام عن نقطة إضافية في حياة هذا السيناريست المصري، وهي ابتعاده عن الحديث عن الصورة النهائية التي ستظهر عليها أصول نصوصه السردية. كان يكتب فقط، وينتهي الأمر هنا. من ينظر إلى شكل الكتاب الأصلي الذي احتوى السيناريو الكامل لفيلم «ناصر56» وقد صدر عن «سلسلة آفاق السينما/ الهيئة العامّة لقصور الثقافة» (2012)، سيجد حجم التغيّرات التي حصلت في شكل العمل على نحو غير مطابق كلياً للفيلم وكيف ظهر على الشاشة. لم يتحدّث محفوظ عن هذا الأمر مطلقاً. كان يعلم أصول المهنة وحقيقة تعامله مع مخرجين كبار لن يعبثوا بنصه الأصلي، وإن حصلت تغييرات فستكون لصالح العمل لا ضده. لكن برحيل «صانع البهجة»، يبدو أنّ مصر العربية باتت تخلو، على نحو تدريجي، من الكبار. لن نقول وداعاً يا محفوظ عبد الرحمن.