بعد غياب دام أكثر من ست سنوات منذ مسلسله الأخير «مريانا» (2012)، يعود مروان نجار إلى الساحة في «سكت الورق» (إخراج نديم مهنا في تجربته الدراميَّة الأولى وإنتاجه أيضاً) الذي انطلق عرضه قبل أسابيع على قناة mtv (من الجمعة إلى الثلاثاء 20:45). يبدو أنَّ الكاتب لم يكن غائباً تماماً طوال هذه الفترة. بحكم نشاطه على مواقع التواصل الاجتماعيّ، فهو مطّلع حكماً على انشغال المتابعين باصطياد الهفوات الدراميَّة وتململهم من «دراما القصور والشركات الفخمة» وحكايات الحبّ المكرورة ذات الإيقاع الرتيب والحبكة المملة.
داليدا خليل في مشهد من «سكت الورق»

عرف كاتب «الطاغية» كيف يستفيد من ذلك كلّه، ويأسر المشاهد منذ الحلقة الأولى، مستخدماً كل المصائد الممكنة التي نجح المخرج في تظهيرها بصورة جذابة. غابة موحشة ليلاً، بديعة نهاراً، جرائم قتل جماعية، قوات خاصة تجري تدريبات قاسية وتنفذ مداهمات حساسة، غموض وأسرار وخبايا تتكشف تباعاً… لصّ غريب الأطوار بلحية كثة وشعر أشعث يتخفّى في كهف، امرأة ساحرة أو مجنونة تعيش وحدها في بيت منعزل على كتف الجبل!
الحكاية تبدأ حين تكتشف لين (داليدا خليل) أن ياسمين (تقلا شمعون) ليست جدّتها الحقيقية. قبل وفاتها بفترة وجيزة، تخبرها ياسمين أنَّ والديها قتلا على يد جدّها لوالدها فواز خاطر (أسعد رشدان) في ضيعة «عيون التلّ» قبل أكثر من عشرين عاماً، بسبب رفض الأخير زواج ابنه عصام من فتاة من عائلة بدور. وأفصحت الجدة أيضاً أنَّها تكفّلت بتربيتها منذ ذلك الحين. هنا، تبدأ لين رحلة شجاعة نحو الماضي، لتكتشف أن سكّان بلدتها لم يغادروه بعد، فهم منشغلون بالخرافات القديمة عن الساحرة التي تلاحقهم اللعنات بسببها، وباللصّ الغريب الذي يزور منازلهم مستغلاً غيابهم عنها فلا يسرق منها سوى الطعام. يترك بالمقابل هدية بسيطة عبارة عن منحوتة خشبية من صنعه. هناك، تغرق لين في قصة حبّ لطيفة مع رئيس البلدية رمزي بدور (خالد القيش)، لتسير الأحداث وفق حبكة مشوقة وممتعة.
إلا أن اعتراضات الكاتب بدأت قبل عرض العمل ولم تتوقّف، بدءاً من الأسلوب الجديد الذي لم يعهده وينصّ على انتهاء دوره بمجرَّد تسليمه النص، إلى الشارة التي صُنِعت كعمل فنيّ جميل، لكنَّه مستقلّ ولا علاقة له بالعمل، وصولاً إلى بعض الهفوات الإخراجيَّة التي تتكشف تباعاً.
من التفاصيل التي أثّرت سلباً على الحكاية الجميلة وقدرتها على الإقناع، ما شاهدناه في الحلقة الأولى من أخطاء دراميَّة شائعة، من دون أن نجزم بمسؤوليَّة الكاتب أو المخرج أو انقطاع الصلة بينهما عنها، حين تأبى ربى أن تُسلم الروح إلا بعد أن تنطق كلمتها الأخيرة! هكذا هو الموت على الشاشة: ينهي المرء ما يرغب في قوله ثم يلقي رأسه ذات اليمين أو ذات اليسار، ويطلب من «عزرائيل» إتمام مهمَّته بهدوء! وكذلك حين ينهض الجريح من موته المؤقّت ليطلق رصاصة صائبة في رأس غريمه، ثمَّ يرقد بسلام! أما في الحلقة الرابعة، فتُبهرنا لين حين تستيقظ في ليلتها الأولى في الضيعة على طرق على باب المنزل المنعزل نفسه وسط أجواء عاصفة، فتنهض لتفتح الباب وتخرج بتلقائية من دون أن تحسب حساباً لشيء. وحين يلوح لها وجه اللص المزعوم بهيئته المرعبة في الظلام بين الأشجار ثمَّ يغيب، تناديه وترجوه البقاء!
لعلّ الكلام بات لكثرة استعادته مملاً، عن إقحام شخصيَّات سوريَّة في عمل لبناني وبالعكس لأغراض تسويقيَّة، وبلا مبرّرات درامية واضحة. وبدلاً من خلق هذه المبرّرات، ذهب صنّاع العمل خطوة أخرى إلى الأمام، فأُعطيَ خالد القيش دور رئيس بلديَّة لبناني يتكلم اللهجة السوريَّة بحكم إقامته في الشام لفترة طويلة من الزمن.
تأبى ربى أن تُسلِم الروح إلا بعد نطق كلمتها الأخيرة!


قدرة العمل على الظهور بحلّة مقبولة، واجتذاب عدد كبير من المشاهدين ـــ رغم كل الملاحظات التي سيقت بحقّه من كاتبه قبل الآخرين ــــ دليل على قوَّة «الورق» الذي كان يمكنه ربما أن يخرج إلينا بصورة أفضل. وإذا كان حرص الكاتب على عنصري التشويق والمفاجأة يستحق الثناء، فإنَّ هذا لا يُلهينا عن الرسالة الكامنة بين ثنايا العمل، وإن حارَ الكاتب في تمريرها بشكل صريح أو«مشفر». فالعبارات التي قيلت لفوَّاز خاطر من قبيل «إنت جبرتنا نتقاتل مع الجيران ونُعادي كل الضيع اللي حولنا حتى تحمينا وتتحكم برقابنا» و«إجاكن عدو عطاكن سلاحه عملتوا زلمه وروحتوا كل شي» و«اللي عملته بعيلتنا من راسك أو اللي سلحوك كلفوك تعمله؟»، كانت كفيلة بلفتنا إلى إسقاط حالة «عيون التل» على المجتمع اللبناني برمته. لم يكن الكاتب مضطراً إلى تنغيص فرحة المشاهد بنباهته، عبر الحديث عن وجود تنوّع مذهبي في «عيون التل» يستغله الآخرون سلباً. وإن كان تناول مسألة محظورة كتعدّد الطوائف في الدراما نقطة إيجابية وجرأة تسجل لفاعلها، إلا أنَّ التنقّل بين التصريح والتلميح أضرَّ برسالة العمل.
وإذا كان نجار قد استُبعِد من العمل في وقت مبكر، فإنَّه يفترض أن يكون رغم ذلك راضياً عن جزئيَّة اختيار الممثلين، إذ لم تكن بعيدة عن معاييره الصارمة التي تعطي الأولويَّة لأصحاب المواهب الحقيقيَّة على حساب أهل الغناء و«البوتوكس». تميَّز كلّ من تقلا شمعون، وأسعد رشدان، وجو طراد، وعلي الزين في الأدوار التي أُسندت إليهم. أمَّا سعد القادري الآتي من عالم الإعلانات، فيمكن ببساطة اعتبار ما قدمه بدور سلوم «ولادة نجم».
هل سيكون المسلسل عند حسن ظنّ كاتبه الذي يصلي لنجاحه رغم كلّ التحفظات، وعند حسن ظنّ المشاهدين الذين يمنّون النفس بخروج الدراما اللبنانيَّة من حالة المراوحة؟ الجواب ستحمله إلينا الحلقات المقبلة قبل أن «يسكت الورق».

* «سكت الورق» من الجمعة إلى الثلاثاء 20:45 على mtv