دمشق | رغم الإشادة الواضحة به من كل من أتيح له الاطلاع على كواليسه، ومشاركة عدد كبير من النجوم السوريين في بطولته، إلا أنّ المسلسل الذي كتبه حسن سامي يوسف ونجيب نصير، وأخرجه سمير حسين، لم يحظ حتى اللحظة بمكان يستحقه على خريطة العرض الرمضاني! بعدما أتيح لـ«الأخبار» مشاهدة عدد من حلقات العمل، يمكن القول بأننا أمام مكاشفة اجتماعية مختلفة، ولغة بصرية تحلّق على ارتفاع يوازي مساحة الجرح الذي غرقت فيه الشام. «سأقطع هذا الطّريق الطويل، وهذا الطريق الطويل، إلى آخره، إلى آخر القلب، أقطعُ هذا الطريق الطويل، فما عدت أخسر غير الغبار، وما مات مني، وصفّ النخيل يدلّ على ما يغيب. سأعبر صف التخيّل... أيحتاج جرح إلى شاعرِه ليرسم رمانة للغياب؟! سأبني لكم فوق سقف الصهيل ثلاثين نافذة للكناية، فلتخرجوا من رحيل لكي تدخلوا في رحيل، تضيق بنا الأرض أو لا تضيق. سنقطع هذا الطريق الطويل»... يتسلل صوت محمود درويش، ليشكّل خلفية لمشهد لم يكن يتخيّل أي مهووس حدوثه في سوريا، حتى في أفظع كوابيسه. طوابير من الأطفال والنساء يغادرون بوجل حيّهم المنكوب. تتحرك الكاميرا على علوّ شاهق، بطريقة منسجمة كلياً مع الإيقاع، وقسوة الفرجة المسيّجة بالخراب، تلتقط ركام الأبنية، كأنها تريد للمشاهد أن يشتمّ رائحة البارود، أو يشعر بسعار الحرب، ولو من خلف الشاشة، ثم تعود لتقبض بحزم على وجه طفلة لا تعرف أن تخفي ابتسامتها الخجولة. لا يمكن أن ينتهي المشهد من دون أن يحفر عميقاً في وجدان من يتابعه. لعلّه اختصار مكثّف للتغريبة السورية!
عبد المنعم عمايري في مشهد من المسلسل

ما سبق هو أحد المشاهد الافتتاحية لمسلسل «فوضى» (كتابة حسن سامي يوسف ونجيب نصير، وإخراج سمير حسين، وإنتاج «سما الفن الدولية»). رغم الإشادة الواضحة به من كل من أتيح له الاطلاع على كواليسه، ومشاركة عدد كبير من النجوم السوريين في بطولته (سلّوم حداد، فادي صبيح، عبد المنعم عمايري، ديمة قندلفت، محمد قنوع، سامر اسماعيل، إمارات رزق، نادين تحسين بيك، مرح جبر، حسام تحسين بيك، هيا مرعشلي، رشا بلال وسوسن ميخائيل)، إلا أنه حتى هذه اللحظة لم يتمكن من إيجاد مكان يستحقه على خريطة العرض الرمضاني! سيتاح لـ«الأخبار» حصراً أن تشاهد عدداً من حلقات المسلسل السوري، لنخرج بنتيجة مبدئية تبشّر أننا لن نكون أمام مسلسل عابر، بل أمام مكاشفة اجتماعية مختلفة، ولغة بصرية تحلّق على ارتفاع يوازي مساحة الجرح الذي غرقت فيه الشام، من دون أن نكون أمام عمل تلفزيوني يتطرق إلى الحرب بشكل مباشر، لكنه لا يدير ظهره لها. هو يحاول بدهاء التأسيس للحكاية من خلال معطيات حرب تسيطر على البلاد، ثم يتسلل سريعاً إلى الحدائق الخلفية للعاصمة المترفة بصخب اجتماعي، فاض عن منسوبه الطبيعي، بمقادير مبالغ فيها، كنتيجة مخيّبة لكن متوقعة بعد سنوات الحرب.
هكذا، ينطلق المقترح الحكائي من مقولة مدهشة هي: «المدن لا تشيخ بتعاقب العصور، المدن تشيخ بفعل الإهمال». يعيد صياغتها بلغة الصورة. اجتهاد إخراجي، قرر صاحبه الانصراف كلياً نحو الاشتغال على أدق التفاصيل المكانية، واختيار متقن لمواقع التصوير، ثم ملاءمة التفاصيل الشكلية بما ينسجم مع وقع الحكايات الصادمة. حتى الديكور يشي بدلالات رمزية تنسجم مع طبيعة شخصيات العمل. يتفرّغ المخرج بعد ذلك للعناية الفائقة بالبناء الدرامي المكثّف، كأن يصاغ المشهد على شكل عمل مكتمل، أو قصة بصرية قصيرة. كل مشهد حكاية وحده، فيما تتقصّد الكاميرا بحركتها مواكبة إيقاع الشارع، بصيغة توثيقية، توغل في روح المدينة التي باتت تنام وتصحو على مزيد من ضوضاء أخلاقية، وعشوائية تسوّر يومياتها، وفوضى تنجز مزيداً من التردي والانحدار، والغرق في مستنقع وحل واسع لا يمكن التكهن بمدى أبعاده.
يصاغ المشهد على شكل عمل مكتمل، أو قصة بصرية قصيرة


وليكتمل هذا المنجز التلفزيوني، كان لا بد من سوية أدائية متقنة من نجومه. هكذا، يطلّ سلّوم حدّاد، ليؤدي دور محام يتعرّض منذ اللحظات الأولى لتهديد بالقتل إذا لم ينسحب من القضية التي أوكل بها. أما عبد المنعم عمايري، فيعتصم على طريقة «الجوكر» الذي يمكنه الوقوف بصلابة كيفما رميته، وهو يؤدي دور «زيدان» الرجل المسحوق الذي يتقاسم مع أخيه غرام صبية واحدة «فتحية» (تؤدي الدور رشا بلال)... هذه الشخصية المحورية في المسلسل، تبدأ حكايتها بسقوط قذيفة على بيتها، وموت جميع أهلها، ثم اكتشاف من يحاول إنقاذها أنها حامل. لكن الطفل لن يكون ابن أحد الأخوين اللذين يعشقانها، بل هو نتيجة حادثة اغتصاب سنكتشف تفاصيلها لاحقاً... تقترح بلال أداءً ينطلق من نظرات العينين، وشرودهما، والذهول أمام المصيبة. من جانبه، يتفرّد فادي صبيح بأداء شخصية مركبة ولافتة هي «أبو الخيل» مولّد الحدث في الحكاية، والقاسم المشترك الأكبر لغالبية مفاصلها. يتمكن الممثل المعروف من إحكام سيطرته على هذا الكاركتير بأسلوبه، لكن بتشكيل أدائي مختلف عما سبق له تقديمه. كأنه فهم التركيبة الخيّرة للشخصية، وتعمّق بروية في بنيتها النفسية، قبل أن يختار لها شكلاً برانياً ملائماً، من دون أن يغيب عنه التسلّح بإضافات تعطي خصوصية، وتترك انطباعاً لدى مشاهدها. كأن نسمع أبو الخيل يردد لازمة «عمّنا» دائماً. سيلتقي بصبية جميلة (ديمة قندلفت) هجّرت من مكان سكنها لتقطن بالقرب من محلّه وتدور بينهما قصة حب شائكة. يعتبر حضور أيمن رضا انتصاراً للأداء الواقعي، والاشتباك مع القاع الذي خبره جيداً، وخاصة أنّه سبق له تجسيد دور بطولة في «الانتظار» (كتابة حسن سامي يوسف ونجيب نصير وإخراج الليث حجو). اللافت في «فوضى» أنه لا ينطلق وفق رؤية تقليدية تمهّد للحدث، ثم تذهب نحو التصعيد، بل يندلع من أعلى المستويات الممكنة لتطوّر الحدث، والذروة التشويقية، ثم يبدأ بالتفرّع إلى القصص الصغيرة المتشعبة من واقع دمشق هذه الأيام.
«فوضى» عمل واعد يعيد قليلاً من الأمل لإمكانية صناعة دراما سورية خالصة، تتمكّن من المنافسة، وتبشّر بأن حصاناً سورياً رابحاً، ربما سيلتحق بالسباق الرمضاني.

* برومو المسلسل