بيّنت أنتروبولوجيا روجيه كايوا ــ إلى حدٍ كبير ــ أن العنف كان مقدساً. أما استمراره، فلا يتوقف على الاعتراف بوقوعه. العنف يعلن نفسه بنفسه. رغم ذلك، وما هو مذهل، أن «الغرب» ــ الذي ليس كتلةً واحدة ونعرف ذلك ــ يأبى الاعتراف أنه ما زال قبلياً، وأن عنفه ما زال مقدساً. وما يحدث في غزة بالنسبة إلى «الغارديان» البريطانية، هو «عنف غير مسبوق». عنف لم يحدث منذ أربع سنوات. للوهلة الأولى، ومن دون أي جهد في التأويل، أول ما يمكن أن يفهمه القارئ من الجملة الأخيرة، هو أن «عنفاً» مثل هذا يجب أن يحصل مرتين في العام، على الأقل، وأنه يجب ألا نستغرب، فالأمر استغرق أربع سنوات. ويجب أن لا نرفس نعمة الزمن، فهذا عنف غير مسبوق من أربع سنوات. ولتذهب الفيلولوجيا وعلم الألسنيات إلى أقرب مكبّ للنفايات في لندن. لماذا استخدام مصطلحات من نوع مذبحة أو إبادة أو أي مفردة من هذا النوع، طالما أن الضحايا ليسوا بيضاً.علينا التصديق أن ما يحدث هو عنف، وتالياً، التصديق أنه يمكن أن يكون متبادلاً، وبين طرفين، تماشياً مع سردية «الصراع العربي الاسرائيلي»، بدلاً من حقيقة مفادها أنّ هناك شعباً يتعرض للإبادة من قبل المستعمرين. وما هو مبهر، ليس ترداد «الغارديان» الخبيث لمصطلح العنف، بل التسليم بوجود «صراع»، لم يعد «مسلياً» للقارئ الغربي، الذي ملّ مِثل هذه الأخبار، وعلى وسائط الميديا أن تقدّم له مادة بديلة وبأسرع وقت. وهذا يحيل إلى أسئلة عدة تتعلق بالإعلام نفسه وبوظيفته، قبل البحث عن أسطورتي الحرية والأخلاق، إضافة إلى النكات الأخرى المسماة «نظريات إعلامية»، التي تدرّس في جامعاتنا من دون أي تطوير. طبعاً، الحديث عن صراعه ليس عن الضحية التي ترفض التحول إلى قربان فتقاوم موتها حتى وإن كانت أداة المقاومة الأخيرة هي الموت نفسه، إنما عن سردية الصراع بحد ذاتها. كما لو أن التاريخ ليس موجوداً، كما لو أن الفلسطينيين ليسوا شعباً وأرضهم ليست أرضاً. والذي يقول إن المسألة مسألة صراع، مثل «الغارديان»، والإعلام في الغرب ــ الذي ليس كتلة واحدة ونعرف ذلك ــ لن يجد صعوبة في القول إن القنابل والصواريخ والفوسفور هي مجرد عنف، تماماً مثلما يضرب شخص ما شخصاً آخر على باب المصعد، أو عندما يغضب سائق الحافلة من أحد ركابها ويصرخ في وجهه.
«لو موند» كانت تنقل بدورها النداء السخيف عن إفراط الإسرائيليين في استخدام القوة


بطبيعة الحال، «الغارديان» ليست وحدها. «لو موند» كانت تنقل بدورها النداء السخيف - ما غيره - عن إفراط الإسرائيليين في استخدام القوة. بلا تأويل، يمكن أن نفهم أنه كان يكفي أن يقتلوا 50 فلسطينياً بدلاً من مئتين مثلاً. «نيويورك تايمز»، التي نقل مراسلها بإيجاز، كيف أن الجيش الاسرائيلي قتل امرأة فلسطينية «لم تكن تحمل حجراً حتى»، لا تخرج عن هذه السردية، إنما صنو الأخيرة في تغطية الصحيفة الأميركية، حيث أن الخبر يستدعي تعاطف القارئ، ويحاول أن يجد مبرراً لظهوره على الموقع: «لم تكن تحمل حجراً حتى». بمعنى أن الصحيفة لم يكن بإمكانها التغاضي عن هذا الخبر، حيث أن الفلسطينيين عزل تماماً. أما عن أعداد الضحايا وسبب الزحف الفلسطيني والتفوق الإسرائيلي، فهذه عناصر خبرية «ثانوية»، وما يهم هو ظهور «الحجر» الفلسطيني في الخبر. ما يهم هو التأكيد على أن ما يحدث هو عنف متبادل، وأن هناك ضحيتين كبيرة وصغيرة. وما هو التضليل غير ذلك؟ غير ذلك يمكن أن يكون التضليل كما في «واشنطن بوست»، التي يظهر على صفحتها في «تويتر» سبعة أخبار من أصل آخر 12 خبراً عن ترامب. ترامب ليس منبوذاً للمناسبة، ولا نتحدث عن المنبوذ كما يراه جورجيو أغامبن.
يصف ريمون آرون علم الاجتماع بأنه علم يبحث عن نفسه طوال الوقت. يبحث عن الأخلاق وعن الحقيقة وعن الحرية، لكنه يبحث عن نفسه في هذه القيم. وفي النهاية، سيعيد البحث ولن يجد نفسه إلا خارج هذه المصطلحات. ذلك لأنها مصطلحات مجردة. أسماك تسبح في فضاء متخيّل شيّدته العقلانية الأوروبية. وذلك المنهج الذي أوصل إلى النازية وإلى مجازر فرنسا في الجزائر وإلى المحرقة البنغالية، يتناسل في الإعلام الغربي تحديداً. الإعلام الذي ينتفض ويبكي ويحمل الورود لضحايا مجزرة في عاصمة أوروبية، ويصف ابادة الفلسطينيين بأنها استخدام مفرط للقوة، ليس حراً إلا في حدود وعيه. ليس مستقلاً عن الاقتصاد وعن السياسة وبالتأكيد عن الاجتماع، وعن العقل الأبيض، الذي لا يعمل وفق «أجندة» كما يرد تسطيحاً في أدبيات الذين يعتبرون أنفسهم أعداء الغرب، بقدر ما يعمل ضدّ ضحيته آلياً. يقاوم العقل الأبيض بدوره الحقيقة، ويبدي تعاطفاً مشروطاً مع ضحيته، التي هي في حالتنا الفلسطينيون. وشرط تعاطفه هو الاعتراف أن الضحية في موقع أقل، وأنها في البداية تستحق التأنيب، ولهذا وقع ما يسمى بالعنف. ولكن العنف ليس ما يحدث، العنف هو سمته البديهية. في الواقع، الإبادة الإسرائيلية للفلسطينيين، اتخذت أكثر من منحى، العنف الظاهر الذي شاهدناه أول من أمس، هو أحد أوجهه فقط. أما الاستيطان وخلافه، فهي جوانب مجهولة، طالما أنها ليست عنفاً مباشراً تستطيع «الغارديان» الإشارة إليه بإصبعها. إنه «عنف غير مقدّس»، وقبيلة الغرب في إعلامها لا تعترف... إلا بالعنف المقدّس!