بعد سبعين عاماً من النكبة التي تحل ذكراها هذه الأيام، صار طبيعياً التعامل مع اسمي فلسطين والقدس كعلامتين تجاريتين معروفتين في كثير من الدول، خصوصاً مع الحالة الوجدانية التي رافقت قضية العرب المركزية. من البقالة الصغيرة إلى الشركة إلى المطعم والفندق، تدرجت هاتان «العلامتان» كتجلّيَين لتثبيت الحق بالعودة والصمود واستذكار ما أراد لنا العدو نسيانه، وصولاً إلى إعلان رمضاني قامت به شركة «زين» (تعمل في الخليج ودول أخرى) في عام نكبة آخر قررت فيه الإدارة الأميركية أنّ القدس عاصمة لإسرائيل. لا يمكننا إلا الاعتراف بأنّ «زين» ـــــ التي اعتادت سنوياً إصدار نسخة رمضانية من إعلان مميز بإنتاج ضخم يتناول قضية محددة ــــــ تعاملت بذكاء مع اللحظة التاريخية التي هيّجت مشاعر الجميع منذ بداية العام. إذ جعلت فكرة إعلانها في رمضان 2018 تتمحور حول القدس. هذا أمر حسنٌ في علم التسويق، والشاطر هو من يجيّر الظروف لصالحه. وحبذا لو كان الإعلان تجارياً بحتاً، ربما لرددنا كلماته لسنوات مثلما علقت في رؤوسنا إعلانات تجارية مميزة. لكن الدعوة التي أطلقتها «زين» هي دعوة مسيّسة لمائدة إفطار في القدس من خلال الترويج لفكرة التصالح والسلام.الدعوة للإفطار في القدس برعاية شركة «زين» هي لأطراف محددة، لم يتم انتقاؤها بشكل اعتباطي.
هي ليست «عزومة مراكبية» بل دعوة حقيقية للإفطار في القدس، سيستقبلها كثيرون بالاستحسان، مستشعرين رغبة حقيقية في التصالح والسلام، لا سيما أنّها جاءت من الطرف المظلوم والأضعف وعلى لسان طفل يذهب بنفسه في بداية الإعلان إلى مكتب دونالد ترامب ليكون أول المدعوين. خطورة الإعلان تبدأ من مشهد البداية في مكتب الرئيس الأميركي، وهو الوحيد الذي لا يظهر في مكان غير مكتبه في تفوق واضح لسلطته وقوته. وحين يقف ليرتب هندامه، ينظر خارج النافذة فينتقل المشهد إلى الرئيس الروسي بوتين الجالس في «مطبخ» عائلة منكوبة جائعة وربّ الأسرة مصاب. الجميع في انتظار أم عادت من «طابور» الخبز بقلب مكسور. يمسك الطفل بيد بوتين الذي يقف وفي الخلفية ابريق شاي يتصاعد البخار، لكن هذه المرة بخار ماء لا أبخرة سامة أسهمت روسيا في نشرها في سوريا حسب الرواية الأميركية. يقود الطفل الرئيس الروسي إلى النافذة المطلة على مسجد وكنيسة كأنه «أعمى».
انتقال سريع للبحر، حيث تهرع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لتحمل أحد الأطفال القادمين على قوارب الموت إلى «أرض الأحلام». علماً أنّ هناك تراجعاً في الموقف الألماني حيال استقبال اللاجئين. في اللقطة نفسها من الإعلان، يظهر رئيس وزراء كندا جاستن ترودو أيضاً حيث كندا وألمانيا أكثر الدول التي رحّبت باللاجئين السوريين.

اللقطة التالية للرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون الذي يدخل على الطفل نفسه في غرفته التي تتحول ركاماً بعد انفجارها. الطفل يقول هنا: «أنا لا أنام كلما أغمضت عيني أسمع انفجار»، كأن كوريا الشمالية هي التي أحضرت الصواريخ لبلداننا! يطأطئ كيم جونغ أون رأسه باعتراف واضح بالذنب، وهذا ما لن نجده في تصوير ردود فعل الرؤساء الآخرين الظاهرين في الفيديو بدقائقه التي اقتربت من الأربع. وترٌ حسّاس آخر يدقه إعلان «زين» متعلق بقضية الروهينجا في بورما. الضحايا المهجّرون يمشون بطرق وعرة ويعبرون نهراً، جنباً إلى جنب مع الأمين العام للأمم المتحدة أنتونيو غوتيريس الذي يحمل طفلة ويبتسم، كأن الأمم المتحدة قامت بكامل دورها الإنساني بحماية هؤلاء المظلومين!
يعود بنا المخرج إلى مكتب ترامب، مع التأكيد على دعوة الإفطار، لينتقل المشهد إلى زنزانة وراء قضبانها طفلة في إشارة واضحة إلى عهد التميمي. الطفل الذي يظهر أكثر من مرة باكياً، يكسر القيد ويحرر الطفلة على وقع جملة «سنفطر في القدس عاصمة فلسطين يكتبها رب الأمنيات العالقة بين يا ليت وآمين». يركض الطفلان تجاه «قبة الصخرة» في اختصار واضح لمدينة القدس. ومع ترديد كلمة «آمين» تظهر وجوه الرؤساء بوتين، ميركل، غوتيريس، كيم جونغ أون. وكان لا بد من الزج برئيس الوزراء الكندي صاحب «الصيت الإنساني» والجوارب المميزة جاستن ترودو، وأخيراً ترامب مع الحركة المستفزة لشفاهه.
إعلان رمضاني يغيّب العدو الحقيقي في القضية الفلسطينية


ينتهي الإعلان بتوسط الطفلين لرجال يرتدون الزي الخليجي وعددهم ستة على عدد الدول الأعضاء في مجلس التعاون، يطلون على قبة الصخرة في ربط واضح للدور الخليجي القادم كأنهم المسؤولون الوحيدون عنها. الإعلان من كلمات الكويتية هبة مشاري حمادة، وألحان الكويتي بشار الشطي وإخراج اللبناني سمير عبود وهو طاقم إعلانات «زين».
دعوة المظلوم لظالمه لا تعدو كونها استعطافاً واضحاً وتلميحات مكشوفة للسلام، وإقبال من الضحية على المتفوق عليها. وقع أصحاب فكرة الإعلان أنفسهم في أعراض متلازمة استوكهولم، هذا كله في تغييب للدور العربي في حل قضية فلسطين وانعكاس للسياسة «التصالحية» القادمة من خلال الحل الخليجي فقط، بل هو ترويج لما يصرون على وصفه بصفقة القرن. ليست نظرية مؤامرة، بل رفض لهذا التمييع ولهذه الدعوة الخانعة للإفطار في القدس ورفض للوصاية الخليجية، والرفض الأكبر لتغييب من هو العدو في القدس والإقرار بسلطة الأميركي الآمر والناهي عليها.
يعيد إعلان «زين» إلى الأذهان، مفاعيل أغنية «الحلم العربي» الشهيرة نهاية التسعينيات، التي غاب العدو عن كلماتها، وكانت من بين الدعاية الإعلامية التي عززت جيلاً عاطفياً ابتعد عن التحليل، واستسهل القوالب الجاهزة التي أسقطت وفككت العراق وليبيا وسوريا واليمن.
العمل بإخراجه المبهر والتقنيات العالية في التصوير وزواياه مع الإضاءة والاعتناء بالتفاصيل، نجح في تقديم الشخصيات وبالأخص بوتين وكيم جونغ أون وترودو، وهذا سيغطي على هشاشة النص ووزن الأبيات الذي يبدو أعرج، عدا عن اللحن الذي جاء استكمالاً للضعف الفني للأغنية.