كسب نصرالله الرهان إذاً، في الجولة الإعلاميّة الأخيرة ضد إسرائيل. انتصر الأمين العام لحزب الله، بدون منازع، في «السباق» نحو الجليل. «ادخلوها بسلامٍ آمنين».. أمام هذه العبارة، التي صُمّمت في لوحة خشبية صغيرة، انطلق مساء السبت «حوار العام» على قناة الميادين. كان وقْع العبارة صادماً، ملهِماً للمحبين والكارهين. أثارت اللوحة حفيظة إعلاميين إسرائيليين، فما لبثوا أن أطلقوا العنان لمخاوفهم، غير آبهين بضعفهم، حول الرسالة التي أراد إيصالها الضيف قبل الحوار. ظهر السيّد نصرالله قويّاً، صلباً، متماسكاً. استطاع أن يبعث برسائل كثيرة، بتسلسل وواقعية وفهم عميق للقضايا الراهنة، محليّاً وإقليميّاً ودوليّاً. تُحسب للرجل نقطة جديدة، توزاي مئة، في الحرب النفسيّة ضد تل أبيب. «لم يحقّق رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، أياً من أهدافه في عملية درع الشمال»، يقول نصرالله. كسر الأخير بإطلالته تلك أسابيع قاسية من الصمت المدروس، أبقى إسرائيل في استنفار مستمر، في غيابة التحليل والتدقيق وطرح الاحتمالات. ضاق صبر المحبين من مقدمة طالت رغم قصرها، قبل المقابلة التي استمرت لثلاث ساعات و15 دقيقة، ربما هي الأطول من نوعها. بدون ملل، حصدت المقابلة ملايين المشاهدين من مختلف أنحاء العالم، ونقلتها وسائل إعلام عبرية مباشرة على الهواء، ثم بدأت بتحليلها قبل انتهائها. اللغة التي استخدمها نصرالله، الهدوء الذي تمتّع به، الطمأنينة التي ارتسمت على وجهه، المزاح الذي أطلقه مصحوباً بتهديدات ثقيلة، كان كفيلاً بتحطيم سيناريوهات إسرائيليّة محتملة، سيعيد ترتيب أوراقها العدو.أكّد نصرالله مجدداً أننا في زمن شعاره: «فتبينّوا». يُشهد لقيادة المقاومة حرصها الدائم في التوعية من مخاطر الشائعات، وانتهاجها الحذر منذ سنوات طويلة. يعرف جيّداً الأمين العام للحزب، هو ومن خلفه، ترددات الأخبار الزائفة ونتائجها المدمرة التي يريدها العدو. تمنّى نصرالله، مرة جديدة، أن تتحصّن البيئة الداخلية من الشائعات «حتى ما يشتغلوا فينا». ورغم أنه غالباً ما يتطرّق إلى هذه المشكلة، إلا أنه حسم الأمر نهائيّاً هذه المرة: «لسنا ملزمين بالرد، وليست قاعدة أن نرد». شكّلت المقابلة درعاً حصيناً أمام كل ما قامت به إسرائيل في الأسابيع الماضية، فسارعت من خلال إعلامها للرد قدر المستطاع، رغم الخيبات التي لحقت بها.
فليعلم العدو، أنه عندما يقدم على كل تلك الإجراءات الحدودية، التي أنفق لأجلها أثماناً باهظة، نتيجة عبارة واحدة أطلقها نصر الله قبل سنوات، فهذا يعني أن كلام الرجل، وبموضوعية، حرب بحد ذاته. وأنه بإمكانه أن يُشغل كيان بأكمله نتيجة حرفين «قد» سبقا عبارة: «قد تطلب منكم قيادة المقاومة السيطرة على الجليل». عندما يقول نصرالله أن عملية درع الشمال وبناء الجدران الإسمنتية والتغييرات الاحترازية على الحدود لم تشكل عائقاً للسيطرة على الجليل، فهذا يعني أن كل محاولاتهم العسكرية والإعلاميّة، والأوهام التي زرعوها في نفوس المستوطنين، ذهبت هباء الريح. بقي نصرالله صاحب القرار، الأول والأخير، في رسم معالم الحرب النفسيّة. إلى ذلك، لقنّ نصرالله قيادة الإحتلال درساً إعلاميًّا لن تنساه، حينما أشار إلى الضغوط النفسيّة التي سببها نتنياهو للمستوطنين، فقد أدخل «الرعب والخوف والهلع إلى كل المستوطنين في الشمال». قبل الأنفاق، «كان المستوطنون يخشون من الصواريخ التي قد تطالهم في أي لحظة، أما اليوم، فهم لا يعرفون من أين ستدخل عليهم المقاومة، من السماء، من الأرض، من على ارتفاع أمتار، عبر الدراجات النارية.. لا أحد يعلم»، يقول نصرالله. قدّم نتنياهو خدمة مجانية للحزب بممارسته حرباً دعائية ضد شعبه، الذي سيرتجف عند سماعه ضربة مطرقة على الحدود.
نصرالله الذي بدا ملماً بكافة التفاصيل، السياسيّة والأمنيّة والعسكريّة منها، لم يفته شيء. لم يسلم غادي أيزنكوت هو الآخر من نيرانه، بعدما عرّى الأمين العام فهمه وتقديراته العسكرية حول انتهاء «خطر حزب الله» في الجليل. الطريقة المنطقية التي انتقد فيها نصرالله الجنرال «الخبير» ستهزّ بلا شك مصداقيته لدى شعبه. لم يكتف الأمين العام بهذا القدر، حطّم جدارهم الإسمنتي: «لا يقاتلونكم إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر، وجدنا له حلاً ان شاء الله». قدّم نصيحة ثقيلة: «يجب أن يطالب المستوطنون بامتلاك حزب الله لصواريخ دقيقة حتى لا تطالهم هم أيضاً». حذّر نتنياهو من أي خطأ في التقدير: «سيندمون، ثمن الإعتداء سيكون أكثر بكثير مما يتوقعه أحد». «افتحها قد ما بدك»، يقول بثقة نصرالله للمحاور، «وضعنا كل الخيارات على الطاولة»، «لن نسمح للعدو بتغيير أو فرض قواعد اشتباك». يغالطهم في عدد الأنفاق: «الله أعلم عشرين أم ثلاثين»، رغم أنه قلّل من أهمية الأنفاق إلا أنه أبقاها هاجساً يؤرق الاحتلال. أقلقهم بعدد الصواريخ التي قد تمطر تل أبيب دفعة واحدة، «في أي حرب ستحصل ستكون كل فلسطين المحتلة ميدان قتال. رسمنا كل شي لهذه الحرب. ونحن وكل من في المحور جاهزون للرد». «أراح بالهم» حول امتلاك الحزب صواريخ دقيقة: «هذا الأمر أُنجز». يقول نصرالله كل ذلك من موقع المنتصر، في مقابلة استثنائية أربكت تل أبيب. تختصر هذه العبارات كل شيء بالنسبة لإسرائيل التي تتمنى الآن لو أن نصرالله لم يكسر صمته.
* صحافية لبنانية