القاهرة | تخطى مكرم محمد أحمد سن الثمانين منذ سنوات (مواليد 1935)، لكن «رئيس مجلس تنظيم الإعلام» في مصر لم تبدر عنه بعد إشارة إلى التعب. في أقل من أسبوع على إقرار «لائحة جزاءات الإعلام»، كان مجلسه قد أطاح فعلاً ثلاث منصات إعلامية، فحجب موقع «المشهد» لستة أشهر مع غرامة مالية، وأوقف برنامج «قطعوا الرجالة» على شاشتي «النهار» و«القاهرة والناس» (إلى حين إجراء البرنامج تغييرات تحترم المفاهيم الأسرية والمعايير المهنية)، وكذلك أوقف المجلس برنامج «الزمالك اليوم» على شاشة «المحور» لمدة شهر مع غرامة مالية بسبب «الخروج عن القيم والأخلاق والتحقير من شأن عدد من الشخصيات العامة والرموز الرياضية».لا يُلاحظ هنا أن الاتهامات مطاطية فحسب، من قبيل «التحقير وعدم مراعاة المفاهيم»، أو حتى «مخالفة الآداب العامة» كما هي الحال في خطاب إيقاف موقع صحيفة «المشهد»، ولا أنها تغطي طيفاً إعلامياً شديد الاتساع من الأسرة إلى كرة القدم ونادي الزمالك. لكن الأخطر أن القرارات صدرت كـ«فرمانات» إعلامية بلا تحقيق ولا استفهام ولا استئناف. أمر زاد اقتناع كثيرين بعدم دستوريتها، بل خلت أوامر التوقيف حتى من الإشارة إلى المواد التي استجلبت «العقاب»، إذ لم يُشر قرار الإيقاف إلى «المقال كذا، المنشور بتاريخ كذا، بعنوان كذا»، بل جاءت الاتهامات عامة وقابلة لمئة تأويل. حتى إن رئيس تحرير «المشهد»، الصحافي مجدي شندي، تساءل في بيانه إن كان المجلس قد طالع موقعاً آخر غير موقعه، فاختلط عليه الأمر.
ولأن شجرة الجميز لا تطرح سوى الجميز، فإن عمومية القرارات جاءت بالأصل من عمومية ومطاطية مواد اللائحة التي أقرت في 18 آذار (مارس) الماضي. ليست المطاطية بغريبة على المواطن العربي، لكن «الإضافة» هنا هي لا معقولية «الممنوعات» التي تتضمنها اللائحة، فمنها مثلاً منع «إجراء مناقشات أو حوارات تعمم ظاهرة فردية باعتبارها ظاهرة عامة» (مادة 21)، ومنها تجريم «إهانة الرأي الآخر! أو إثارة الجماهير» (مادة 17) أو استضافة «شخصيات غير مؤهلة» (مادة 20) أو «نشر مادة تتعرض للأديان والمذاهب الدينية» (مادة 14)، أو استخدام ألفاظ «تؤذي مشاعر الجمهور» ( مادة 16 ) أو «ترصد جهة أو شخص ما بسوء نية»! يعاقب على مثل تلك «الجرائم» وغيرها بعقوبات تبدأ من الحجب وتصل بعض غراماتها المالية إلى خمسة ملايين جنيه مصري (حوالى 300 ألف دولار)، وهو مبلغ يكفي ربعه لإفلاس بعض المؤسسات، و«اتهامات» تكفي لإلغاء العمل الصحافي برمته.
القانون شمل معاقبة حسابات الأشخاص العاديين على فايسبوك!


وعلى الرغم من أن الاسم الرسمي للائحة الجزاءات قد يوحي للوهلة الأولى بمحدودية عدد من تنطبق عليهم اللائحة، وهم «الجهات الخاضعة لأحكام قانون تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام الصادر بالقانون الرقم 180 لسنة 2018»، إلا أن تلك «الجهات الخاضعة» تشمل «كل ما يعرض على الشاشات من برامج وأفلام وإعلانات، والصحف المطبوعة، وكل ما ينشر على الإنترنت في المواقع الإلكترونية أو صفحات التواصل الاجتماعي»، أي الإعلام برمته، ثم تضع اللائحة لمستها الأخيرة وإبداعها الخاص لتشمل أيضاً «الحسابات الخاصة التي يزيد عدد متابعيها على 5000 متابع»! هكذا، يمنح المجلس عبارة «المواطن الصحافي» بعداً جديداً، لا من حيث الاستعانة به في الرقابة المجتمعية، بل بضمّه تحت طائلة عقوبات بلغت من العبث أن بعض أقرب المقربين إلى السلطة، كالصحافي مصطفى بكري والإعلامية لميس الحديدي، قد أعلنوا رفضهم لها.
وبالطبع، فإن مسألة معاقبة «أكاونتات» (الحسابات الشخصية) الأشخاص العاديين تثير الكثير من الإشكالات، فماذا لو أخفى الشخص المعني عدد متابعيه (الفولورز)؟ وماذا لو كان لديه متابعون كثر، لكنه خصّص بعض المنشورات للأصدقاء فقط؟ وماذا لو عدّل منشوره أو خصّصه لقراء بلد آخر؟ وكيف يمكن تطبيق عقوبة «الحجب» على حساب على موقع فايسبوك؟ هل بحجب الموقع كله؟ وماذا عن المدونات التي لا ينكشف عدد قرائها إلا برغبة صاحبها؟ عيّنة محدودة من أسئلة كثيرة سبق أن أثير مثلها حين أمر المجلس قبل أشهر بترخيص «كل رابط إلكتروني» مرفقاً بالأمر ضرورة تعيين رئيس تحرير نقابي وصحافيين وشكل مؤسسي وميزانية، قبل أن يكتشف أن هذا مستحيل لأن الروابط الإلكترونية بعشرات الآلاف وشديدة التنوع من الصحافة إلى المدونات الشخصية إلى مواقع الشركات والصحة والطفل... فاكتفى بطلب ترخيص مواقع الأخبار، لكنه لم يمنح ترخيصاً واحداً حتى الآن ربما ـــ مرة أخرى ـــ لضخامة المهمة وكثرة إشكالياتها. إشكاليات منبعها باختصار أن مسؤولين من حقبة الديناصورات يريدون التحكم في مستقبل الميديا.