بعد كلّ مقابلة تلفزيونية يجريها زياد الرحباني في الفترة الأخيرة، يلجأ الجمهور المتابع وحتى النقاد إلى استذكار حلقتَيه الشهيرتين في «حوار العمر» (جيزيل خوري- lbci - 1997)، لاستعادة انطباع يستحقّه البرنامج، وربّما جاء نتيجة العمل دعائياً في السنوات الفائتة لجعل اللقاء أحد أنجح وأشهر المقابلات وأكثرها عمقاً ومهنيّة. بعد اثنين وعشرين عاماً، يتوقّف جاد غصن عند هاتين الحلقتين، لا سيّما الأولى منهما، فيما تجرّه المشاهدة على «يوتيوب»، إلى مراجعة لقاءات أخرى أجراها البرنامج الشهير مع جوزيف حرب وسعيد عقل وطلال حيدر، ليضع سياقاً لهذه الحلقات، يضيء على أزمة «التوك شو» في لبنان، وانحداره اليوم إلى درك أسفل، وإهماله لقامات ثقافية جدلية، قد لا تلقى إجماعاً شعبياً، لكنّها اختفت عن الشاشة ولم يحلّ مكانها أحد. هذه الجدلية، التي دارت في رأس غصن منذ عامين، قادته إلى اختيار زياد الرحباني، كون تجربته المتشعبة تتداخل فيها السياسة والموسيقى والحياة الشخصية. «من بعد هالعمر» (إعداد جاد غصن - مونتاج فالنتينا خوند- تصوير سمير العقدة) وثائقي سيعرض عند التاسعة والنصف من مساء الليلة على «الجديد». يستمدّ غصن العنوان من أغنية فيروز الشهيرة «كبيرة المزحة هاي»، التي ترد فيها عبارة «من بعد هالعمر»، لتحاكي بدورها سؤالاً تلفزيونياً حول ما بعد «حوار العمر»، بالإضافة إلى سؤالٍ زمنيّ آخر حول مرور هذه السنوات على الرحباني منذ البدايات وحتى اليوم. ساعة وأربعون دقيقة، كثّفها الصحافي اللبناني، ليقدّم مقاربة مختلفة، تضيء على نقاط أهملها الإعلام، لكنها أساسية في مسيرة الرحباني الموسيقية والمسرحية والسياسيّة. لعلّ النقطة الأبرز هي عدم انفصال خيارات الرحباني السياسية عن أعماله الفنية. إذ أن أبرز الفنانين الملتزمين سياسياً في لبنان، أطلق مواقف واضحة لا لبس فيها، وكان من القلائل الذين بقوا ثابتين عليها. انطلاقاً من هذه النقطة، يطرح غصن سؤالاً حول تأثير هذا الأمر مباشرة على أعماله الفنية ومداخيله المالية، خصوصاً في إنتاجاته الفنيّة الخالية من أيّ نفس تجاري. في «من بعد هالعمر»، يتّخذ غصن من «الحالة الزيادية» مثالاً لتعميمه على الأزمة التي تصيب المجتمع اللبناني، وتعبّر بدورها عن «شي انفقد» كما يقول لنا غصن. تأخذنا العبارة مباشرة إلى سؤال وجودي حول مصير أيّ فنان مثالي، وإمكانيّة استمراره في التأقلم مع بلد مأزوم كلبنان من جهة، وإمكانية الاحتفاظ بآرائه السياسية رغم الهزائم التي أُلحقت بالمحور الاشتراكي من جهة أخرى. يستعيد غصن هنا عبارة ضيفه الشهيرة «عم جرّب البلد ما يغيّرني»، التي تعدّ بمثابة «معركة» لجميع اللبنانيين. تجنّب غصن في شريطه التطرّق إلى أمور شخصية، قد تهمّ الناس، إلا أنه ركّز على بعض المحطّات العائلية التي ساعدت في سياق تنفيذه للفيلم. إذ أفسح مجالاً للحديث عن علاقة زياد بوالده عاصي، وتأثّره الموسيقيّ به، وحتى تقاطعاته السياسية معه التي دفعته إلى الانتقال من «الكتائبية» إلى «الشيوعية» في سنّ التاسعة، كما يروي. يبدأ الفيلم من المقابلة الشهيرة للرحباني على «الجديد» عام 2014، قبل قراره بالعزلة لأكثر من عامين.
مساحة وافرة للشقّ الموسيقي في تجربته

في تلك المقابلة المقتضبة مع غصن، قال زياد عبارته الشهيرة: «خرا عالجمهورية»، قبل أن يختفي ويعود في «مهرجانات بيت الدين الدولية» صيف 2018، منهياً غياباً دام أكثر من عامين ونصف العام. أراد غصن الانطلاق من ذلك المكان في فيلمه، لكن الظروف تغيّرت، وتأجّل موعد المقابلة معه مراراً، لنكون أمام فرصة ذهبية اقتنصها المراسل الشاب في مرافقة الرحباني، منذ أيار (مايو) الماضي، إلى كواليس المسرح. رافقه غصن في البروفات، والحفلات، والأستديو الخاص به، وترك لكاميرته الحريّة في التقاط ورصد ما يجهل الجمهور واقعه. النتيجة جاءت كمساحة وافرة لهذه الكواليس، من ضمنها مقابلات مع أعضاء الفرقة ستُعرض من دون توليف، إلى جانب المقابلة المباشرة مع زياد التي حرص غصن على أن تظلّ واقعية قدر الإمكان من دون الالتزام بكلاسيكيات العمل الوثائقي. إذ سيركّز الأخير بشكل كبير، على الشق الموسيقي وتطوره عبر الزمن، وعلى الأقاويل الخاطئة التي أُلصقت به، واختلافه مع الرحابنة في كلام الأغنيات لا على صعيد الموسيقى فحسب. ولعلّ المساحة الأبرز كما ذكرنا، ستكون للموسيقى على لسان الرحباني الذي يفضّل إسماع الموسيقى عن الحديث عنها. هكذا ستمرّ مقاطع موسيقية من مسرحياته، وأخرى غير متداولة كثيراً مثل مقطوعات تصويريّة لأفلام ومسلسلات، مع استرجاع مرحلة زمنية (بين 1972 و1974) عندما ترك بيت أهله واتّجه إلى العمل في الموسيقى. يتوزّع الفيلم على أكثر من محور. إلى جانب المقابلة الشخصية الأساسية، واللقاءين السريعين معه، هناك أجزاء من لقاء الرحباني مع طلاب «الجامعة اللبنانية الأميركية» العام الماضي، واستعادة سريعة لمسيرته منذ ولادته إلى اليوم. في الشريط أيضاً، إطلالات نادرة التداول إعلامياً، تضيء على علاقته بالراحل جوزيف سماحة، والتقاطعات الفكرية بين الرجلَين (دخوله الإذاعة والمقاربات المشتركة لهزائم المحور الاشتراكي). سيعرض مقطع فيديو للمرّة الأولى (زوّدته به «الأخبار»)، لجلسة جمعت بين سماحة، والرحباني والزميل ابراهيم الأمين في استديو الرحباني في الحمرا. وللمرّة الأولى، يعرض «من بعد هالعمر» صوراً فوتوغرافية التقطها الرحباني بنفسه، ويركّز فيها غصن على البُعد الفني لالتقاط الصور واختيار الكادرات.

* وثائقي «من بعد هالعمر» لجاد غصن: التاسعة والنصف مساء اليوم على «الجديد»