في شباط (فبراير) الماضي، هزّت النيران المشتعلة في جسد جورج زريق النحيل، الرأي العام اللبناني. أقدم الرجل على حرق نفسه في باحة ثانوية «سيدة بكفتين» (الكورة)، بعد رفضها تقسيط المبالغ المتراكمة من أقساط أولاده، وإعطائه إفادة تمكنّه من نقلهم الى مدرسة رسمية. القصة التي شغلت اللبنانيين ومعهم الإعلام بكل تفرعاته، سرعان ما انطوى ملفها كما البقية بعد أشهر قليلة على وقوع الحادثة. هي أكثر من صرخة قهر، وصل اليها زريق وقتها، ليسجل بموته المتعمد صرخة مدّوية أكثر. وقتها، شبّه كثيرون جورج زريق بمحمد البوعزيزي، الذي أشعل النيران في جسده، قبل تسع سنوات، وفجّر ثورة في بلاده تونس، وسرعان ما امتدت جغرافياً الى بقاع أخرى. لكن على الرغم من قوة رسالته التي بعثها للمنظومة التعليمية والإقتصادية-السياسية المتواطئة، الا أن قضية جورج زريق بقيت عاجزة عن تحقيق المآرب. إحراق الجسد كحالة إعتراضية مدّوية، شهدناها لاحقاً مع جورج الخولي، لأسباب تختلف عن زريق. الخولي نجا بعد محاولته حرق نفسه أمام «قصر العدل» الشهر الماضي، اعتراضاً على حكم قضائي، صدر بعد 10 سنوات من انتظاره، اعترض على غياب العدالة باحراق جسده أمام بيت «العدل». أول من أمس، تصدّر خبر نية امرأة حرق ابنتيها، المنصات الإخبارية والتفاعلية. المرأة التي شدّت الأنظار اليها، هي سيدة جنوبية، أتت بأولادها الخمسة الى «ساحة رياض الصلح» أثناء تظاهرة مطلبية، وسرعان ما تحلق حولها المعتصمون، والكاميرات كذلك. المرأة الغاضبة طالبت بارجاع أولادها الى المدرسة، بعدما طردوا منها، جراء عجزها عن دفع الأقساط. هكذا، بدت في حالة نفسية صعبة، وغير عابئة بما ستقدم على فعله: «بدي اعمل شغلة تهز العالم (..)..خليّ يولع البلد»، فيرد عليها أحدهم: «ما حدا رح يهتم». يتقين قائل هذه العبارة، من أن أحداً لن يعبأ بمصائر أطفال أو أمهات وصل بهم الأمر الى ما يمكن أن نسمّيه «الإنتحار العلني» واستخدام الموت حرقاً، كوسيلة للإعتراض والتغيير. وضعت قناة mtv رقم هاتف المرأة في نشرة أخبارها، في حال تحركت النخوة في أحد المشاهدين وأراد المساعدة، لكن المشهدية توقفت عند هذا الأمر. هذه السيدة المقهورة، التي لجأت الى مظاهرة مطلبية، حاولت أن تسترق من أضواء كاميرات الإعلام المتمركزة في الساحات، لتخبر الناس بقضيتها، وبوجعها الذي طال اولادها جراء الأوضاع الإقتصادية القاهرة التي تزنر حياتها وحياة كثيرين يتشاطرون معها الألم عينه. لكن في نهاية المطاف، ظلت خبراً عاجلاً وتغطية قصتها على شاكلة خبر برقي. قد لا تنوي هذه المرأة فعلاً حرق نفسها أو طفلتيها، لكنها أرادت اللجوء الى الإعلام وعالم السوشال ميديا، كي توصل صرختها. وفي نهاية المطاف، لن تكون السيدة الجنوبية «بوعزيزي» ثانية، فقد سبقها جورج زريق وانتهت قصته سريعاً، رغم مراراتها، ولن تسمع صرخاتها، بفعل تقاعس المسؤولين، والميديا اللبنانية بكل تفرعاتها، التي اكتفت مشكورة بوضع رقمها على الهواء للمساعدة، ولم يعمل على متابعة القصة لا في المدرسة التي سمتها على الهواء، ولا في أوضاع عيش أطفالها الخمسة الى جانبها. ربما قصتها لا تخضع للمعايير السائدة في الوقت الحالي، للإعلام اللبناني، الذي يفضّل أن يضخم ظواهر طفيلية على المنصات الإفتراضية كبرنامج «أنا هيك» (الجديد) الذي يفتتح موسمه الثاني باستضافة رملاء نكد التي تشبه حالة عبد الله عقيل، بدل العمل بشكل جدي على دوره في المسؤولية الإجتماعية!