تبدو الثورة رائعةً للغاية عند مشاهدتها على قناة «الجديد». تبدو cool للغاية. في عام 1971، قام كاتب ومغني السول والجاز الأميركي من أصل أفريقي جيلبيرت سكوت هيرون بكتابة قصيدة ستصبح لاحقاً واحدةً من أشهر القصائد/قصائده: The Revolution Will Not Be Televised وأطلقها في ألبومه Pieces of a man. حقّقت الأغنية/ القصيدة ضجّة هائلة لأسباب عدة أبرزها أنّ الثورات الحقيقية التي يقوم بها الشعب فعلياً لا تغطّى من قِبل قنوات الإعلام الكلاسيكية. ذلك أنَّ الإعلام مكلف، وساعات البث الهوائية ذات كلفة عالية. من هنا تفضّل تلك القنوات الكلاسيكية التعامل مع مصادر «دخل» واضحة وظاهرة. بالتالي يأتي وقوف الإعلام بمجمله مع القوى المالية أمراً بديهياً، فهو في النهاية ملتزم «بالربح». كان سكوت قد استقى فكرة الأغنية من «حركة القوة السوداء» Black Power Movement في الولايات المتّحدة الأميركية، حيث كانت هذه الفكرة واحدة من أقوى شعاراتها في ستينيات القرن الماضي. تشير كلمات الأغنية إلى العديد من الشخصيات والبرامج التلفزيونية والشركات التي تقف خلفها، مؤكدةً أن هذه الشخصيات والبرامج والشركات لن تشارك في «تظهير» الثورة. كما أنّ الثورة حين تحدث، لن تقبل بمثل هؤلاء لتمثيلها.

هناك بريقٌ مختلفٌ تخلقه الشاشات لـ«الثوار». لذلك كان من البديهي في حال تغطية القنوات اللبنانية للحراكات الشعبية أن ينبري الجميع لملاحقة «مراسلي» هذه القنوات، تارةً للحديث معهم، وطوراً لمهاجمتهم. في الحالتين، كانت تلك المشاهدة «تغطّى» وتعطي مساحة للشخص في التعبير عن ذاته. لدى الجمهور في بلادنا دائماً أزمة تعبير، إذ ليس هناك فعلاً أيّ تغطية لمشاكل الناس الحقيقية التي ليست «على الموضة» أو Trendy وتناسب برامج «الهامش» (fringe programs) التي تتناول بعض القضايا الهامشية وتحوّلها إلى قضايا رأي عام. فجأة حدثت الحراكات ـــــ وهي بحسب التوصيف الأكاديمي الأصدق لناحية توصيف ما يحدث في لبنان، ذلك أن الثورة أعم وأشمل، فيما الانتفاضة هي أفقية وعامودية مجتمعياً ـــ فأفرغت قنوات التلفزة المحلية كلّ هوائها من برامجها خلاف برامج «الثورة».
وحدها قناة «الجديد» طوّرت الأمر خصوصاً مع تنبهها إلى فكرة أن الأمر سيطول، وأن التغطية وحدها لن تكون كافية لإعطاء الحراك نتائج مأمولة. إذ علينا أن نذكّي الحراك بما يجعله متّقداً دائماً: برامج تذكّر بما فعله أهل السياسة طوال السنوات الفائتة، لقاءات مباشرة مع شخصيات/ أفراد من شأنهم دفع عجلة الحراك إلى الأمام وإبقاء البوصلة واضحة لهذا الحراك. يضاف إلى هذا نوعية المراسلين «الهجوميين» (attackers) الذين لا يكتفون بطرح الأسئلة، بل يضعون أيضاً الأجوبة وليس إيحاءاتها فقط في فم المتحدثين، كأن يطرح المحاور سؤالاً مغلقاً من نوع: «هلق إنتو شو عم تعملوا؟ عم تهتفوا للثورة؟».



أمرٌ حدث فعلاً، حين سألت إحدى مراسلات قناة «الجديد» شاباً صغيراً كان يهتف بقوة خلال الحراك. ارتبك الشاب في البداية، لكنه تنبّه إلى أن الإجابة في السؤال عينه. الأمر نفسه انسحب على أسئلةٍ من نوع: «بكرا رح تسكروا الطرقات، شو شعوركن؟» طبعاً قبل حتى أن يكون هؤلاء الشبان قد قرّروا إغلاق الطرقات من عدمه. باختصار، ليس التلفزيون هنا لنقل الأخبار، بل أيضاً لصناعتها، وهو المدرسة التي قامت عليها الـCNN الأميركية، وخلفها «الجزيرة» القطرية (خصوصاً حين غطّت الأزمة السورية منذ عام 2011). سلوك المراسلين بحدّ ذاته كان تجربة تستحق الدراسة والتأمّل، إذ يمكن مراقبة رامز القاضي كحالة خاصة مثلاً. بخلاف تصرفه كنجم، يتخلص بشكلٍ سريع ومتعالٍ من أي شخص يعتقد أنه لا يستحق الكلام، أو لا يقول ما يريد سماعه، إذ أوقف رجلاً مسناً كان يريد الكلام تحت منطق: «لأ ما رح تخطب يا عم»، كأنما «خطبة» العم كانت ستعيق الهواء، أو ستخفف من الثورة. هذا السلوك انسحب على عدد كبير من مراسلي القنوات التلفزيونية اللبنانية. أما تجربة مراسلة «أو. تي. في» جويل بو يونس فهي أيضاً تستحق أن تروى. خلال تغطيتها لبعض المناطق التي «تكره» بشكل أو بآخر «التيار الوطني الحر» الذي تمثّله قناتها، تعرّضت للهجوم من المتظاهرين وبشكلٍ شخصيّ، فما كان منها إلّا أن ردّت عليهم كما لو أنّها «خارج الهواء»؛ مع أن القناة كانت تنقل بشكلٍ مباشر. الثورة هنا كانت تُنقل بشكلٍ مباشر. جويل كانت قد تصرفت قبل ذلك بشكلٍ غريب حينما ناقشت متظاهِرة حول ما إذا كان الوزير جبران باسيل يتحمّل مسؤولية كلّ ما يحدث في البلاد.



لم تكن جويل ناقلةً للخبر البتة: كانت جزءاً رئيسياً منه، جزءاً من صناعته، وتوجيهه حتى.
مراسلة «أم. تي. في» جويس عقيقي وقعت في أمرٍ مختلف/ متشابه في آنٍ معاً، إذ «تعاركت» مع الملحن سمير صفير، الذي وصل به الأمر إلى وصف سلوك الإعلاميين بالعهر. ردّت عليه «صرمايتي بتشرّفك» بعد أخذٍ ورد وجمل من نوع «إنت ما بتعرفني». فلنأخذ مثالاً آخر: رياض قبيسي، المراسل التلفزيوني، الذي أصبح مختصّاً اليوم في ملاحقة الفاسدين، وصحافياً «خبيراً» في مجال الصحافة الاستقصائية ــ بحسب ما تخبرنا به القناة ـــ يختال في كل لقاءاته على الهواء: يميل إلى الاستعراض، سواء عبر أسلوب حديثه، ورفع وخفض نبرة صوته مع حركات يدين أقرب إلى المسرحية.
ليس التلفزيون هنا لنقل الأخبار، بل أيضاً لصناعتها، وهو المدرسة التي قامت عليها الـCNN الأميركية

إنه يظهر نفسه «قائداً» في معركة من نوعٍ ما، هل نحن أمام بوب وودوارد؟ هل تمظهر لنا هذه الحراكات نماذج خاصة للمراسلين سيسعى آخرون لتقليدها؟ هنا أيضاً كانت الثورة «تنقل» على الهواء مباشرةً.
يبقى آخر الأسئلة، وأهمّها: هل كانت الحراكات لتحدث كما هي اليوم لو أنه ليس هناك «هواءٌ مباشرٌ» لتغطيتها؟ هل كانت لتكون شأناً مختلفاً؟ ماذا عن طبيعة الجمهور؟ ماذا عن القوة «الخفية» ــ التي باتت ظاهرة اليوم بشكلٍ «مرعب» ــ التي يملكها المراسل حين يعطي الحق لأحدهم بالكلام، ويخفي آخر؟ كلّها تظل خبيئةً تحت سؤالٍ واحد: هل تستحق الثورات/ الحراكات أن تغطّى هوائياً، من قنواتٍ موجّهةٍ كهذه؟