مسلسل نتفليكس الجديد Unorthodox (أربع ساعات تلفزيونيّة) يروي حكاية (مستلهمة من وقائع حقيقية) فتاة من يهود حيّ ويليامزبيرغ في نيويورك. اندفعت الشابة في رحلة تحرر من قيود البطريركية الخانقة بحثاً عن تجربة هويّة جديدة في برلين. ورغم صبغة العمل اليهوديّة الشاملة (شكلاً وفريقاً وموضوعاً)، والرمزيّات المقحمة في ثناياه من دون داع درامي، كما مآلات أبطاله المفرطة في تفاؤل ساذج، فإنّ فيه ثيمة إنسانيّة عميقة قد تجد لها صدى عند كثير من الشابات و(الشّبان) المعاصرين الذين يعيشون حالات متراكبة من الاغتراب والتناقض والبحث عن الذات، لا سيّما في المجتمعات المتزمتة.نشأت ديبورا فليدمان في مجتمع اليهود الحسيديم الأرثوذكسي المحافظ في نيويورك الخاضع لمنظومة شديدة التعقيد من تقاليد بطريركيّة تحكم جوانب حياة الأفراد كافة ـــ نساء ورجالاً ــــ وعلاقاتهم، وشكل أدوارهم المجتمعيّة منذ لحظة الولادة إلى رعشة الموت، وكلّ ما بينهما. لكن بفضل عشقها السريّ لقراءة الروايات ــ المحرّمة ــ اكتشفت عوالم شخصيّات نسائيّة مختلفة قويّة وقادرة على مصارعة أقدارها، ألهمتها لاحقاً الهروب نحو برلين (بالإفادة من جذورها الألمانيّة للحصول على الجنسيّة). فعلت ذلك بعدما وجدت نفسها عالقة في مساحة خانقة سايكولوجيّاً بين دورها كابنة لمجتمعها التقليدي ــ بكل ما يحمله ذلك الدور من توقعات الآخرين ــ ودورها كمراهقة دون العشرين انتهت إلى علاقة زواج مدبّر قاحل عاطفيّاً وجنسيّاً مع إنسان تكاد لا تعرفه. ساعة الصفر حدثت بعدما أنجبت ابنها وهي صبيّة في التاسعة عشرة. أرعبتها فكرة أن يعيش ابنها حالة الاغتراب الحاد كما عاشتها هي. بعد عقد من العيش في برلين، نشرت مذكراتها في 2012 (حملت اسم المسلسل) التي وجدت قبولاً لدى نشرها أوسع من مساحة الجمهور اليهودي في نيويورك. إذ قُرئت كمزيج من رحلة هروب من حصار الواقع، ومحاولة بناء هويّة في مجتمع جديد تماماً، وتلك مسائل عابرة للثقافات والحدود. فيلدمان تعرفت لاحقاً في العاصمة الألمانيّة إلى صانعات المسلسل (من بينهن آنّا واجنر صانعة مسلسلات «دوتشلاند 83» و«دوتشلاند 86») ومنتجته أليكسا كارولنسكي صانعة وثائقي «أوما وبيلا». هن يهوديّات بدورهن حملن قصص اغترابهن المختلفة، فكان سهلاً التوافق بينهن على تقديم المذكرات في سياق دراميّ، مع منح صانعات المسلسل رخصة أدبيّة من المؤلفة للتصرّف بالقصّة شريطة الاحتفاظ بخط السرد الأساسي.
أنجز العمل كّله تقريباً بطاقم يهودي من الممثلين (لعبت شخصيّة إيستر شابيرو محور الحكاية الممثلة الإسرائيليّة شيرا هاس، 24 عاماً، فيما قدّم أميت راهاف دور زوج البطلة) وصولاً إلى المستشارين الثقافيين والفنيين، وانتهاء بالمخرجة ماريّا شرادر، وهو ينطق بخليط من اليديشيّة (بلهجة بروكلين)، كما الإنكليزيّة والألمانيّة بحسب تقدّم الأحداث، ما منح سياق القصة واقعيّة ظاهرة.
يعتمد المسلسل بكثافة على مزاوجة السرد بتقنيّة «فلاش بك». مع ذلك، ينجح في إبقاء القصّة حيّة ومتمركزة حول شخصيّة شابيرو في كل وقت. لكن الشخصيّة تبتعد كثيراً عن حكاية فيلدمان كما في المذكرات، فيُخترع لها شغفٌ بالموسيقى (بدل الكتب) وأحداث مرتبطة بها، كما علاقة رومانسيّة مع صديق ألمانيّ، ولقاء بوالدتها التي اضطرت لتركها صغيرة في نيويورك وسبقتها في العودة إلى برلين. والأهم من هذا كلّه، يرسم العمل صورة مشرقة خادعة عن حال شابيرو فور وصولها إلى ألمانيا بنقود قليلة وبلا أمتعة أو مكان للإقامة، حيث تتقاطع المصادفات العجيبة لتلحقها بمجموعة من الأصدقاء طلاب الموسيقى ومن ثم فرصة للحصول على منحة للالتحاق بالمعهد معهم (فكرة المعهد وأجواؤه المختلطة الألمانيّة العربيّة واليهوديّة مأخوذة من معهد حقيقي في برلين يقود عمليّات التطبيع بين الموسيقيين العرب والإسرائيليين). هذه السّذاجة الظاهرة في رسم مآلات الشخصيّات في المرحلة البرلينيّة من حياة شابيرو، أفقدت سرديّة العمل كثيراً من أوجها الذي بقي مع ذلك متألقاً في الجزء النيويوركيّ منها، لا سيّما في مرحلة عقد القران وما سبقه من تحضيرات، ومن ثمّ أيّام السنة الأولى من الزواج قبل مغادرة شابيرو بالطائرة نحو البرّ الأوروبيّ. فلا أحد يحبّ أن يغادر عالمه وناسه، إلا إذا أصبح هذا العالم لا يطاق بعد محاولات تعايش فاشلة. ولا يسهل أبداً بناء بيئة حاضنة في المنفى الجديد كما يعرف كلّ المهاجرين، وفرض النهايات والمصادفات السعيدة أمر يجانب الخبرة والمنطق وحتى المذكرات المكتوبة نفسها.
الجزء النيويوركي من Unorthodox مطرّز بتفاصيل فولكلوريّة وأنثروبولوجيّة عن حياة اليهود الأرثوذكس المتزمتين. لكنّ المسلسل يظهرها أنيقة وصادقة وجميلة، كما واحة عذبة في قلب عاصمة العالم الرأسماليّ الماديّ المجدب. تجنّب صنّاع العمل بحساسيّة ثقافيّة شديدة، الابتعاد ولو لحظياً عن قصة شابيرو وأبقوا مجتمعها في الخلفيّة البعيدة دائماً. كما استعانوا بشكل مكثّف بالطقوس والرّموز العبرانيّة (رحلة التيه والوصول إلى أورشليم/ برلين العالم اليوتوبي، طقوس التطهّر بالماء قبل الزواج، ومن ثم تكرار ذلك الطقس للتخلّص من الماضي في البحر، وارتباط مراحل حياة البطلة بشعرها: طويلاً في المراهقة، مصففاً في العرس، مزالاً بالكامل عند الزّواج، الهولوكوست، ووهم التعايش العربي ـــ اليهودي...). استعانة وإن كان لها ما يبررها عموماً بحكم أجواء المسلسل، إلّا أنها كثيراً ما بدت مقحمة على القصّة، وأقرب إلى كليشيهات جاهزة متوقعة ومملة أحياناً. وهناك تسطيح غير مفهوم لفكرة الأمومة التي تقدّم نفسها مرات عدة ضمن أحداث المسلسل كفرصة للجدل الدرامي من دون أن يلقي إليها صانعوه بالاً.
العمل بالطبع يأتي كجزء من تمثيل استثنائي مقصود للثقافة الإسرائيليّة واليهوديّة على منصّة نتفليكس الأميركية يتم من خلاله تجميل شخصيّة اليهودي فرداً ومجتمعاً وتطبيع عنصريته وانغلاقه وكيانه الاستيطاني عند المشاهدين عبر العالم. يأتي Unorthodox في هذا السيّاق ليكمل ما بدأه مسلسل Shtisel الإسرائيلي الذي قدمته نتفليكس ويعرض يوميّات أسرة من اليهود الأرثوذكس المتشددين في القدس المحتلّة في إطار جذّاب حاز متابعة عالميّة (تلعب فيه شيرا هاس أحد الأدوار الرئيسة، وتبدو فيه أيضاً مقتدرة على تأدية أدوار الشخصيّات المعقّدة وحكايات الألم النسوي كما في Unorthodox).
المسلسل مطرّز بتفاصيل فولكلوريّة وأنثروبولوجيّة عن حياة اليهود الأرثوذكس المتزمتين


لكن إذا وضعنا كلّ ذلك جانباً، فإن العمل فيه ثيمة إنسانيّة عميقة قد تجد لها صدى عند كثير من الشابات و(الشّبان) المعاصرين الذين يعيشون حالات متراكبة من الاغتراب والتناقض والبحث عن الذات، لا سيّما في المجتمعات الشديدة المحافظة على اختلاف الجغرافيّات والأزمنة والمرجعيّات الأسطوريّة. إذا نَزَعْتَ عن عالم شابيرو أوراق تغليفه اليهوديّة، لن يختلف في محتواه عن حال صبيّة سعوديّة تعاني قسوة واختناقاً في المجتمع الوهابي المتزمت والعزل الصارم بين الذّكور والإناث (على الأقل إلى وقت قريب قبل سياسة الانفتاح الرسمي الأخيرة)، أو بنت مصريّة تتعرّض للختان الظالم، أو بنت مشرقيّة يذبحها أهلها بحجة الذود عن الشرف المدّعى. فهناك دائماً ثمّة شيء فاسد في كل ويليامزبيرغ، أنى كانت شرقاً أو غرباً.
ورغم مركزيّة الشّأن الأنثوي في السرديّة، إلا أن العمل يضيء على حالٍ شديدة من الاغتراب الموازي تظهر أيضاً على الذكور في هذه المجتمعات المحكومة بالبطركة، وتدفعهم إلى العدوانيّة ولعب أدوار لا تمثّل دواخلهم وبناء توقعات متطلّبة من الطرف الآخر (شخصيّة زوج شابيرو مثلاً) والسّقوط في فخ التناقض المطلق (شخصيّة ابن عم الزوج الذي يسافر معه إلى برلين للبحث عن الزوجة الهاربة).
تتقاطع هذه الثيمة مع خط عريض يحكم حكايات الخروج عن الطريق المستقيم والسعي إلى استكشاف العالم على الجانب الآخر وبناء هويّة جديدة خلال ذلك. لكن إبداع صنّاع Unorthodox كان في تقديم ذلك الخط العريض في إطار نقد محكم للبطريركيّة كنظام فوق الذكور الذين يظهرون في المسلسل كببغاوات تردّد التقاليد أو ضحايا اغتراب معقد بدورهم. نظام تضمن أيضاً ديمومته النساء أنفسهن، حيث الانصياع المرضي للموروث والتنفيذ القسري للتقاليد وخيانة التضامن النسوي... أمور كلها تقوم بها عادة نساء العائلة والمجتمع القريب لا الذكور، فيما يربط الجميع عقدة الذعر من الآخر المبنيّة على تراكم قرون من تداخل الأحداث التاريخيّة بالأساطير ومصالح المتنفذين. وفوق ذلك كلّه، نجح المسلسل بتفوّق في عرض شقاء العيش المشترك بين الزّوجين الجديدين وتوترات علاقتهما الجنسيّة الملتبسة سواء أمام مجتمعهما أو في مخدع النوم من دون ابتذال كرامة الأشخاص لا كبشر ولا كنوع جندري. وتلك مهمّة ليست سهلة أبداً في عمل درامي موضوعه تحديداً ذلك الشقاء.

* Unorthodox على نتفليكس