في نكتة، أو حكاية مصرية شهيرة، تذهب مذيعة التلفزيون إلى أحد المقاهي لتصوير حلقة من برنامج يرصد ردود المشاهدين عند سماع بعض الكلمات، وتسأل أحد الجالسين: «ما الذي يخطر في بالك عندما تسمع كلمة مشط؟». يجيب: «أتذكر الجمال»، فتسأله «لماذا الجمال»، فيقول «لأن الانسان يستخدم المشط ليتزين ويصبح جميلاً». ثم تطرح السؤال على شخص آخر، فيقول: «العدل والمساواة»، فتسأله «لماذا»، فيقول «لأن الحديث الشريف يقول «الناس سواسية كأسنان المشط». وتتوجه المذيعة إلى شخص يجلس وحيداً يدخن النارجيلة بتركيز، وتسأله «ما الذي يخطر في بالك عندما تسمع كلمة مشط؟»، فينظر لها ملياً ويقول بهدوء: «الجنس»! تتعجب المذيعة وتسأله «لماذا؟»، فيقول: «هذا هو أنا. أي شيء يذكرني بالجنس». يبدو المشهد كأن أي شيء يحيل إلى الجنس في عالمنا العربي، الحياة الاجتماعية والدين والسياسة والاقتصاد وحتى كرة القدم التي تحولت إلى مباراة في الشائعات والشتائم الجنسية بين رئيسَي أكبر ناديين في مصر!
دعاء العدل ـ مصر

في الواقع، يختزل الصراع السياسي والثقافي الدائر بين العالم العربي الإسلامي والغرب في الجنس لأنّه الموقع الأخير الذي يحتمي فيه العالم العربي من هجمات الحضارة. منذ أكثر من عشرين عاماً، أطلق المفكر الأميركي صامويل هنتنغتون صيحته عن «صراع الحضارات»، معلناً أن الهوة الثقافية بين الغرب والشرق تتسع وأنها تتمثل في الديموقراطية التي يتبنّاها الغرب، ويعجز الشرق العربي عن تبنيها. لكن دراسة أخرى أجريت في «جامعة ميتشيغان» عام 2003 نشرتها مجلة Foreign Policy خلصت إلى أن الديموقراطية ليست مشكلة صراع الثقافات بين الغرب والعالم الإسلامي، لأنّ المواطنين في البلاد المسلمة ليس لديهم مشكلة مع الديموقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين، لكن المشكلة كلّها تكمن في معتقداتهم وآرائهم حول القضايا الجنسية من المثلية وحرية المرأة وحتى الحق في الطلاق والإجهاض. وأكدت الدراسة أنّ هذه الهوة ليست في سبيلها للالتئام سريعاً، بل ربما تزداد اتساعاً مع مرور الوقت، وأنّ لا أمل في ارتقاء هذه المجتمعات سياسياً وحضارياً طالما ظلت متشبثة بأفكارها عن الجنس، خاصة في ما يتعلّق بالتعامل مع حريات النساء والأقليات الجنسية في مجتمعاتها.
نظرة سريعة على المعارك والقضايا التي أثيرت خلال الأسابيع الأخيرة على مواقع التواصل ووسائل الإعلام المصرية، تكشف بوضوح أن الجنس لما يزل الشاغل الأول، وربما الأخير، للمجتمع المصري... من المثلية، إلى التحرش، والفن النظيف، وصولاً إلى معركة البوركيني والمايوه التي ثارت خلال الأيام الماضية.
البيكيني كلنا نعرفه، فهو لباس السباحة، أو المايوه ذو القطعتين الذي أثار اكتشافه وانتشاره الدنيا قبل حوالى مئة عام قبل أن يصبح لباساً عادياً للمصطافين في معظم بلاد العالم. أما البوركيني، لمن لا يعرفه، فهو لباس سباحة يقال بأن مبتكرته أسترالية لبنانية، هدفها توفيق رأسين في الحلال بين الشرق والغرب والتدين وركوب البحر، وهذا البوركيني مصمّم لكي ترتديه المنقبات والمحجبات اللواتي يرغبن في العوم في الأماكن العامة، فهو مطاطي، يغطي الرأس والجسم كله فيما عدا الوجه واليدين.
من المعروف أن البيكيني «سيئ السمعة»، وحتى المايوه العادي ذا القطعة الواحدة، لم يعد لهما وجود تقريباً في مصر، باستثناء بعض الشواطئ الخاصة، داخل كميونات مغلقة على أصحابها، أو داخل حمامات السباحة الخاصة. مع ذلك، فالانتقادات والشتائم تطال أيّ واحدة أو واحداً يجرؤ على نشر صورة عائلية تحتوي على بيكيني أو مايوه «عادي» على صفحته الخاصة، مثلما حدث أخيراً مع الممثل شريف منير عقب نشر صورة لابنتيه الصغيرتين بالمايوه.
البوركيني ونسخه الشعبية الأخرى التي يطلق عليها «المايوه الشرعي» وصلت أيضاً إلى الشواطئ الخاصة، التي تشترط عدم نزول البحر أو حمام السباحة بالملابس العادية، ما نتج عنه مشهد عجيب يلتقي فيه البيكيني بهذا النقاب البحري، ما يثير حالة من الارتباك والنظرات العدائية، وربما أيضاً بعض الملاحظات والمشادات اللفظية بين الطرفين، وهو ما دفع بعض مرتادات مواقع التواصل الاجتماعي لمهاجمة البوركيني ومطالبة صاحباته ومرافقيهن من الرجال بعدم اقتحام هذه الشواطئ الخاصة «الحرة» طالما أنهن يعتبرن التعري على البحر حراماً. السؤال الذي لم يُعثر له على إجابة هو: هل يعتبر البوركيني لباساً للبحر بجانب أنواع المايوهات الأخرى، أم يعتبر ملبساً عادياً «قبيح المنظر» يخدش حياء السابحات المتعريات؟
الطريف أن مرتديات البوركيني والمدافعين عنه في مصر يتّهمون منتقديه بـ«العنصرية» وعدم تقبل الآخر، بالرغم من أنهم لا يمكن أن يتقبلوا امرأة، أو حتى طفلة، ترتدي المايوه على الشواطئ العامة، وبالرغم من أن التجارب السابقة تؤكد أن هذه هي الوسيلة التي يتسللون بها إلى الفضاء العام، ثم الخاص، لفرض ألبستهن «الشرعية» في النهاية. فبعد مرور وقت، ستتم محاصرة ونبذ مرتديات المايوه والتنمر عليهن ثم منعهن من ارتدائه، كما حدث من قبل على معظم الشواطئ الأخرى.
معركة البوركيني والبكيني واضحة، ويمكن فهمها في ثقافة كل ما يشغلها هو عدد السنتيمترات المكشوفة من جسد المرأة، لكنها أيضاً امتداد لمعارك سابقة متتالية، سياسية وثقافية، اتخذت مظهراً جنسياً خالصاً.
على رأس هذه المعارك الصراع الأساسي الدائر بين النظام والإسلاميين ممثلين في الإخوان المسلمين والداعشيين وبقية أنصار الحكم الديني وعودة الخلافة.
برغم أن النظام قدم نفسه للناس كمدافع عن الديموقراطية والحريات العامة والفردية ضد ديكتاتورية ورجعية الإخوان، إلا أن الصراع تحول تدريجاً إلى مزايدة على من الطرف الأكثر تديناً وصلاحاً في مواجهة الخصم الكافر المنحل أخلاقياً. وبينما راحت قنوات الإخوان وإعلامها ينشرون «فضائح جنسية» لبعض رجال النظام، رد أنصار النظام بنشر فضائح واتهامات جنسية أكثر فضائحية ليس فقط للإخوان، ولكن لكثير من المعارضين أو المختلفين معه، وأصبحت السبة الأكبر التي توجه لأي معارض تتعلق بشرفه أو ميوله الجنسية. وتحت ضغط المزايدات المتصاعد، راحت قوات الأمن المصرية تطارد عدداً من الفتيات اللواتي يظهرن على الانترنت، وتوجه لهن تهم الدعارة أو المثلية أو غيرها من التهم الجنسية.
من ناحية ثانية، واصل الإخوان، وأخوانهم، رفع وتيرة اتهام النظام وأنصاره بالإباحية ومخالفة الشريعة وتأييد العري والفسق... وحتى داخل المجتمع المصري، أصبح من الممكن التعرف إلى مؤيدي الإخوان غالباً، من خلال انتقاداتهم المبالغ فيها للإعلام والفن والنظام بنشر الفجور والعري. وهو ما دفع النظام إلى مزيد من التضييق على الأعمال الفنية والإعلام، خاصة في ما يتعلق بالجنس والعري. مع ذلك، يواصل خصوم النظام إسلاميو النزعة رفع سقف المزايدة باستمرار، كما حدث في قصة تصريحات الممثل يوسف الشريف أخيراً بأنه يشترط في عقود عمله عدم وجود مشاهد حب أو تلامس جسدي مع النساء، أو كما يتضح في تصريحات وتعاليم شخص يدعى عبد الله رشدي، محسوب على الأزهر، لكنه في الحقيقة يردّد كل تعاليم داعش ويستبدل الشعار القديم للاخوان «الإسلام قادم» بشعار «الأزهر قادم»، وبالطبع، مثل معظم الشيوخ ترتكز 99% من تصريحات وشتائم رشدي إلى الجنس والمرأة! ما بين فكي الرحى، النظام ونقيضه، ترتفع حرارة اللعب بورق الجنس على طاولة جسد المرأة، وفي المنتصف يقف المدافعون عن الديموقراطية والحريات يتصدون للضربات من الجانبين.
الأمثلة أكبر من حصرها هنا، وقد تداولتها وسائل الإعلام طوال الأسابيع الماضية، لكن القصة الأكثر كشفاً في تصوري هي ما حدث مع الممثل الأميركي ويل سميث وزوجته اللذين ظهرا في أحد اللقاءات ليتبادلا الحديث بصراحة عن علاقتهما الزوجية التي استمرّت لسنوات طويلة عكرت صفوها بعض الخلافات، واعترفت زوجة سميث خلال اللقاء بأنها خانته أثناء انفصالهما المؤقت ذات مرة مع أحد المغنين.
راح إعلام الإخوان ينشر «فضائح جنسية» لبعض رجال النظام، فرد هؤلاء بنشر «فضائح» من النوع نفسه ضد الإخوان والمعارضين


في اليوم التالي، ظهر سميث وزوجته على أحد الشواطئ في عطلة مع أبنائهما، وهنا انهالت مئات التعليقات على حساب النجم على انستغرام وتويتر تشتمه بأقذع الألفاظ وتتهمه بأنه ديوث ومخنث ومنحرف، وكل هذه التعليقات جاءت من العالم العربي! عادة، يتجنّب المتشددون الحوار أو الحديث مع العالم الغربي حول المفاهيم المختلفة للجنس، مكتفين بالحديث مع الذات حول فساد الغرب وسريان الانحلال في أوصاله، ولكن هذه المرة تم توجيه الرسائل للممثل العالمي مباشرة، كما لو كان واحداً من الممثلين والممثلات المصريين الذين يتعرضون للإهانات والشتائم يومياً على صفحاتهم من قبل هؤلاء المتشددين (حتى لا نستخدم وصفاً أسوأ).
الفنانون، ولو كانوا من الأجانب، هم مصدر الاستفزاز الأول لهؤلاء المتشددين (أعتقد، لو كان ويل سميث سياسياً أو رجل أعمال مثلاً، لما اهتم هؤلاء بالتعليق على حياته). والفن هو «الحائط الواطي»، كما يقول التعبير المصري، الذي يغري كل من هب ودب بالقفز عليه وانتهاكه.
الديموقراطية التي وفرتها ثورة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي تم تحويلها إلى منصة لتقويض الديموقراطية، مثلما يتم استخدام حرية ارتداء الملابس للتغلغل تدريجاً وفرض نوع واحد من الملابس على الجميع في نهاية المطاف!