لعلّه من أسوأ الأخطاء الفكرية الاعتقاد بوجود قراءة وحيدة وصحيحة ومرجعية لكتابات كارل ماركس - أو أيّ من النصوص ذات القيمة النظرية عموماً – يمكن اعتبارها الفهم الصحيح والنهائي للمعنى الذي قصد إليه صاحب «رأس المال» (1867) في توصيفه النقدي للمنظومة الرأسمالية. فكل قراءة تأتي ومعها انحيازات قارئها وحدود خياله والسياق التاريخي لها ونسق التطوّر الاجتماعي – الثقافي الذي تُطرح فيه. ولذا، فإنّه من المثير دائماً مشاهدة قراءة سينمائية/ تلفزيونية لذات المفهوم النظري الماركسي من وجهة نظر صانعي أعمال بصريّة عالميين، فكيف إذا كان هؤلاء يقفون على التقاطع الخطر بين فكر ما بعد الحداثة وأحدث تكنولوجيّات الرأسماليّة المتأخرة في هوليوود الأميركية تحديداً؟ المسلسل الأميركي Westworld (ثلاثة مواسم 2016، 2018، 2020) للأميركيين جوناثان نولان وليزا جوي (زوجته) هو إعادة صياغة بتصرّف وتوسّع (على HBO) لفيلم المخرج الرؤيوي مايكل كريشتون (Westworld – 1973). يقدّم المسلسل لمشاهده فرصة استثنائيّة ونادرة - أقلّه في ظل طغيان المضمون الشديد التسطيح على المنتجات الهوليووديّة في عصر «لعبة العروش» - لتذوّق أطباق مائدة فلسفيّة. تمتد هذه الأطباق من البحث في ظاهرة الاغتراب، وحتميّة الحرب الطبقية ديالكتيكياً، ومآلات الثورة، ونظرية الأزمة في النظام الرأسمالي والهيمنة والإيديولوجيا إلى معنى الوجود الإنساني المادي برمّته، وتعريف الوعي الذاتي والجمعي مقابل الوعي الزائف، وخطورة التاريخ في تشكيل الرؤية إلى العالم، ومعنى الإرادة والحرية، وجدلية الواقع والخيال، مروراً بتساؤلات مزعجة حول دور التقدم العلمي – بيولوجيّاً وتقنياً – في مستقبل البشريّة القريب، وبنية القوّة وطرائق ممارسة السلطة في الدولة الحديثة وغيرها من المسائل النظرية التي لا يمكن الإلمام بها ومقاربتها من دون المرور بممر إجباري اسمه الفكر الماركسي.
بالطبع ليس هوليوود مصنع بروباغاندا ماركسياً، ولا الثنائي نولان - جوي شيوعياً بأي حال. والمقاربة فنياً وبصريّاً أقرب ما تكون – بين مواسمها الثلاثة – إلى تلفيق درامي أميركي من أفلام «من أجل حفنة دولارات» كابوي، وثلاثيّة «ماتريكس» (دستوبيا أيديولوجيّة)، و«بليد رانرر» بجزءَيه (ديستوبيا مستقبليّة). ويمكن للمشاهد دائماً الأخذ بحرفيّة الحكاية والانشغال بأحدث تقنيّات السينوغرافيا، وأداء الشخصيّات الملفت، بل الموسيقى التصويريّة الملحميّة (رامين جوادي، المعروف بعمله على مسلسلَي «صراع العروش» و«بريزون بريك»، متفوّقاً هنا على ذاته مجدداً). لكن ذلك لم يمنع ماركس من أن يكون - بغيابه المباشر - الشخصيّة الأكثر حضوراً والأكثر استدعاء، بلحيته الكثّة ووجهه المحبب، عند كل محاولة لتحليل السرد أو تفكيكه إلى مكوناته الفلسفية الأساسية، سواء في الصحف الأميركية أم على مواقع التواصل الاجتماعي.
يستند Westworld إلى حكاية مجمّع ترفيهي مستقبلي يعتمد تقنيّات متقدّمة ليقدّم لزبائنه من فاحشي الثراء تجربة انعتاق من واقعهم اليومي وعيش أجواء تاريخية نوستالجية قديمة (اختار الثنائي نولان/ جوي الاقتصار على أجواء الغرب الأميركي حصراً من دون توازي العوالم كما في الفيلم الأصلي حيث كان للضيوف الاختيار بين روما القديمة أو عصور أوروبا الوسيطة (إلى جانب الغرب الأميركي) كما ممارسة العنف المجاني الآمن، وإطلاق العنان لتحقيق الفانتازيات الجنسية الصاخبة في بلدة سكانها روبوتات متطوّرة تأخذ شكل البشر وتسلك مثلهم، وتتبع سيناريوهات مبرمجة بالكامل من قبل الإدارة، ولضيوف المجمّع معاملة هذه الروبوتات – التي تسمّى بالمضيفين – وفق أهوائهم من دون قيود: يمكن مصادقتهم وتبادل أطراف الحديث معهم على كأس من الشراب، أو تعنيفهم، أو اغتصابهم أو حتى قتلهم على أساس أن هذه الروبوتات، وإن تمثلت بشراً، مجرّد آلات لا إحساس عندها، ولا مشاعر «حقيقيّة». وتتطوّر الحكاية عندما تتراكم أخطاء برمجية لتخلق نوعاً من وعي يفتح على بعض المضيفين بوابة الإدراك والشعور بالقهر والمعاناة التي تعيشها طبقة الروبوتات العاملة، فتبدأ بمقاربة فكرة التمرّد على النظام المسيطر وأيديولوجيته المبرمجة لإخضاع الروبوتات واستغلالها، وربما الفرار خارج حدود المجمّع نحو العالم الخارجي. وبالفعل، تندلع ثورة مسلحة (في الموسم الثاني) تنتهي بمذبحة شاملة للبشر (إدارة وضيوفاً) كما المضيفين مع تمكن عناصر قليلة من الانتقال إلى خارج المجمّع (الموسم الثالث) حيث أجواء مستقبليّة وصراع بقاء بين المضيفين الفاريّن الذين يحاولون تدمير منظومة السيطرة وإنهاء الحالة الرأسمالية – التكنولوجية وراءها، ونخبة مهووسة تريد تمديد السيطرة على العالم و«صناعة التاريخ» على هواها.
وللحقيقة، فإن الموسم الأوّل – الأقرب لفيلم كريشتون – كان الأكثر تماسكاً وسبكاً، طُرحت فيه معظم الأفكار الأساسية وتجذّرت الثيمة الكليّة للعمل، وتأسّست هوية الشخصيات المحوريّة، فيما كان الموسم الثاني استطراداً مطولاً ودوراناً حول أحداث (الثورة الدمويّة) كان يمكن اختصارها في حلقتين أو ثلاث على أبعد تقدير. أما الموسم الثالث – وهو محاولة جريئة من الثّنائي نولان/ جوي لإعادة اختراع الحكاية بالإفادة من قوّة فكرة الفيلم الأصلي وإسقاطها على مناخ مستقبل، فقد بدا كما لو أن السرديّة قد فقدت قوّتها، واجترّت ذات القضايا الكبرى للموسم الأوّل (معنى الوعي، العلاقة بين الواقع والخيال، الصراع الطبقي...) مجدداً من دون داع ولا القدرة على تقديم إجابات مقترحة. وأُهدِرت طاقات ممثلين من الدرجة الأولى التحقوا بالمسلسل (جيسي باكمان في دور كيليب مثلاً) بلا طائل، وانتهى الموسم أقرب إلى فيلم أكشن ومطاردات هوليوودي آخر، فيما اعتبر متابعو الحلقة الأخيرة منه (عنونت «نظريّة الأزمة» وفق المصطلح الماركسي) نهاية لا تطاق، وتدنّت التقييمات الشعبيّة لها إلى أقل من 50%، وتسبّبت في إلقاء ظلال كثيرة على قدرة الموسم الرابع (متوقع في عام 2021) على تقديم عمل مقنع.
كثافة الطرح الفلسفي، وتراجع قوة السردية مع تقدّم الأحداث ربما تفسّر إلى حد ما فشل Westworld في الوصول إلى شعبيّة عريضة تسمح له بوراثة مكانة «صراع العروش» في برمجة HBO كما كان العزم (راجع «الأخبار»: «ويستوورلد: كل هذه البذاءة الرأسماليّة!» في عدد 30 تمّوز/ يوليو 2016). لكن المسألة أيضاً لها علاقة بسياسة هوليوود في تعظيم الرّبح إلى ما لا نهاية بتحويل القصص الناجحة إلى مؤسسات (فرانشايز) يمكن أن تعيش إحداها لعشر سنوات أو أكثر، مع أنّ كثيراً من القصص لا تحتمل ذلك. ولعل آخرها كان مسلسل «لا كاسا دي بابل» الإسباني الذي ما إن تأمرك على يد نتفليكس حتى شرع يفقد من روحه مع كل موسم جديد، ولم يعد يشبه موسمه الأوّل الجبّار في شيء، وإلى حد ما أيضاً True Detective الذي لم يعد قادراً على التحليق بعد موسمه الأول العبقري.
حكاية مجمّع ترفيهي مستقبلي يعتمد تقنيّات تتيح لزبائنه الأثرياء تجربة انعتاق من واقعهم اليومي


في التحليل الماركسي للحكاية، فإن المضيفين كأنهم تمثُّل حرفيّ للطبقة العاملة التي تكدح بلا توقف في نظام حياة رتيب عديم المعنى إلى أن يحال أحدها إلى التقاعد لدى تطوير نماذج أحدث، وهذا إن لم يستهلك قبل ذاك ويُرمى بجسده إلى مقبرة الروبوتات عند تعرّضه لإصابة عمل لا يمكن علاجها، فكأنهم عبيد لا يعلمون بأنهم عبيد. في المقابل، تعيش طبقة أخرى متطفّلة لتنعم بعوائد عمل الكادحين وتفرّغ مآزقها السيكولوجية والثقافية على المستضعفين. يعيش هؤلاء المضيفون في دوائر مغلقة – ماتريكس - تعيد خلق عالمهم المؤدلج الموهوم مرّة بعد مرّة، في ما يمكن وصفه بالوعي الزائف، بينما يدير المشهد من وراء الكواليس طاقم يعتقد أنّه انتقل إلى مصاف الآلهة من ثمله بالسلطة على المضيفين. نكتشف شيئاً فشيئاً أن ذلك الطاقم هو نفسه طبقة عاملة تعيش بدورها حالة اغتراب، وتتغذّى على دوائر إيديولوجية مغلقة غير مرئية، وتتحكم بها بنية قوّة معقّدة من وراء الكواليس، لتتلاشى الحدود - مع تواصل السّرد - بين الموظفين والروبوتات، ولا سيّما بعدما تبيّن أن بعض من حسبناهم بداية من البشر كانوا روبوتات، وأن بعضها قد شرع يطوّر وعياً ذاتياً أسقطه في لجة اغتراب قاتل (ثاندي نيوتن في دور مدام الماخور ميف، إيفان ريشيل وود في دور الشقراء الحالمة دولوروس وزعيمة الثورة لاحقاً، وأيضاً جيفري رايت في دور بيرنارد اليد اليمنى للدكتور روبرت فورد العقل المدبّر للمجمّع والذي يلعب دوره أنتوني هوبكنز). حتى الضيوف الأثرياء هم في المجمّع يعيشون وهم حريّة مزيفة، إذ يمارسون عربدتهم ضدّ فئة مضطهدة، لكنهم في الحقيقة أسرى لذات الدوائر المغلقة المؤدلجة سواء لناحية الشكل (الهوليوودي للغرب الأميركي في القرن التاسع عشر) أم المضمون (الأدوار التي يلعبونها محدّدة بتوقعات لا خروج عنها كسادة فاجرين حصراً)، فيما لا تجد دولوروس ــ بعد تمكنها من الوصول إلى العالم خارج المجمّع ــ اختلافاً بينهما: الهيمنة ذات الهيمنة، والاستغلال الطبقي ذات الاستغلال والاغتراب ذات الاغتراب - فتقول مخاطبة كيليب: «لقد اعتقدت بأن عالمكم مختلف عن عالمي، لكنّي لم أجد أي فرق على الإطلاق».
تحمل الحوارات بين شخصيات المسلسل في مختلف مواسمه، ولا سيما الأوّل، ثراء فلسفياً جمّاً، وبعضها يبدو تعليقاً لعقل شديد الاطلاع والحكمة على قضايا فكريّة مثيرة. أمر يفرض على المشاهد طبقة إضافيّة من الانتباه للتفاصيل بدل الاسترخاء مع تدحرج السرديّة، وتدفعه مرغماً على اتخاذ موقف فلسفيّ ما مع أو ضدّ لا فرق، ومساءلة افتراضاته المسبقة. خذ مثلاً أحد الضيوف (إيد هاريس في دور وليام) مخاطباً أحد المضيفين يقول: «يا عزيزي لم يكن أيّ خيار أخذته في حياتك حقيقة لك، لقد كنت دائماً سجين وهم (الاختيار)»، أو «الوعي ليس رحلة لاكتشاف العالم بقدر ما هو رحلة في عمق الذات. هو ليس هرماً يُبنى، بل هو رحلة بحث في متاهة». هذه نصوص لا ينبغي أخذها بخفة أبداً.
يتضمّن العمل مشاهد عري وجنس لكنّها لا تخرج عن السياق الدرامي. على أن الثنائي نولان / جوي بدا مكبّلاً تماماً أمام فيلم كريشتون في ما يتعلّق بالأدوار الجندريّة، فقدماها - رغم تعدد أدوار البطولة النسائيّة في المسلسل – من دون تغيير يذكر: بقي مزاج الترفيه في المجمّع ذكورياً وعدوانياً محضاً، والفضاء مخصصاً لمتع الرجال وعنفهم المجاني، فيما النساء مجرّد أدوات وضحايا. ولا نطّلع في أيّ لحظة على ما قد يجذب سيّدة ثريّة مثلاً إلى مثل تلك التجربة، أو إذا كانت هناك نماذج أخرى للتهتك الجنسي لخدمة أصحاب الشهوات المنحرفة. أمر بدا لائقاً بعمل من خمسينيّات القرن الماضي أكثر منه بالعقد الثاني للقرن الحادي والعشرين.
إذا وضعنا جانباً ذلك التصوير المبهر، وأداء الممثلين النجوم المتألّق، وبهلوانيّات الموسم الثالث، فإن تجربة نولان/ جاي لا تتقدّم على سينما كريشتون على مستوى الخيال الدرامي. ففكرة المجمّع الترفيهي المخصّص للأثرياء الذي يمكن فيه ارتكاب الموبقات والرذائل دون حساب نموذج أميركي موجود بالفعل أمام الجميع سواء في الولايات المتحدة ذاتها (لا فيغاس) أم في المستعمرات (دبي التي ينتهي الموسم الثالث من العمل في أجوائها ويحتل خط السماء فيها خلفيّة بوستر الموسم)، ونقله الجيش الأميركي معه إلى جوار قواعده العسكرية عبر العالم: اليابان، كوريّا، البحرين... لذا بدت الحكاية كأنها تصوير واقعي معاش أكثر مما هي حدث مستقبليّ (مع مراعاة الفرق بين الروبوتات والرقيق الأبيض البشري)، ولم يساعد الثنائي أن عالم كريشتون كان أكثر تنوعاً لناحية التجارب التاريخية التي يمكن زيارتها من قبل ضيوف المجمّع، ولم يتمكن الثنائي من نقل مسرح الأحداث زمنياً لحقبة تالية أكثر مستقبليّة، فيما لم يخرج الموسم الثالث عن حدود سقف لوس أنجليس عام 2049 كعاصمة في منتصف القرن الحالي كما خطّها فيلم «بليد رانر» (الجزء الثاني) وبذات نوعية تقنياته المتقدمة (الروبوتات، السيارات الطائرة، وأجهزة الاتصال الهيلوغرامي، وما إلى ذلك). أما الخلاصة الكليّة للمسلسل، فهي وإن اعترفت بالحالة العديمة الاستقرار الدائم التي تخلقها الرأسمالية وفق نظريّة الأزمة الماركسيّة، وقبلت دينامياتها الديالكتيكيّة عن التناقض المستمر الذي يستحيل معه الحفاظ على الأوضاع القائمة، فإن الثورة الحتمية في النهاية كما يقترح نولان/ جوي تقع في فخ التمنيّات الأميركية، فتغرق في الدماء وتُجهض ولا تنتصر، ولا ينبغي عندئذ لأحد التوهّم – والصورة للثنائي دائماً - بأن خروج الطبقة المستضعفة عن الهيمنة يمكن أن ينتهي إلا بالخراب للجميع. وتلك بالطبع سذاجة أيديولوجيّة محض أضاعت على المسلسل فرصة استكشاف احتمالات أخرى ممكنة، وأبقته في الدائرة المغلقة للعقل الأميركي منتج ومجترّ أسطورة «نهاية التاريخ».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا