في لبنان لا كتاب تاريخ موحّداً، ولا تاريخ موحّداً يجمع اللبنانيين منذ نشأة الكيان. فكيف إذا كنا أمام عمل توثيقي أو محاولة توثيقية تلفزيونية أو حتى ورقية وإذاعية، تضع يدها على هذا التاريخ أو على أجزاء منه؟ أمر يتطلّب طبعاً جهداً واسعاً في البحث والاختيار ووضع معايير لهذا الاختيار، على رأسها النزاهة التي يجب على المعدّ أن يتحلّى بها، وابتعاده قدر الإمكان عن زواريب شخصية أو عقائدية يمكن أن تشوّه عمله، وتنتقص من قيمته. «صارو ميّة» (إعداد وتنفيذ جان نخول ــــ تقديم نبيلة عواد) السلسلة التي دشنتها mtv، بداية الشهر الماضي على شاشتها، وتمتدّ على 13 حلقات أسبوعية، لا يمكن وصفها بالوثائقية، كونها تفتقد إلى عناصر أخرى تُدرجها في هذه الخانة. في أحسن الأحوال، يمكن وصفها بأنها سلسلة حلقات تستعرض محطّات تاريخية وأسماء طبعت هذه المحطات حيّة كانت أو متوفاة. بعد عرض أربع حلقات من السلسلة (مدّة كل حلقة ساعتان) التي اتّخذت من مئوية «لبنان الكبير» منطلَقاً لها، وأساساً في استعراض 100 شخصية ثقافية، سياسية وفنية، مع تخصيص حلقة كاملة للفنانة فيروز، علت الأصوات المعترضة على تغييب أسماء تركت بصمتها في التاريخ اللبناني لا سيما الثقافي منه، لصالح أخرى، لا ترقى إلى مستوى من غُيّبوا.
الناقدة الفنية والتشكيلية اللبنانية ريما النخل، كانت من بين هؤلاء الذين عبّروا عن اعتراضهم على إحدى الحلقات التي غيّبت من «أسّسوا النهضة العربية والتنوير العربي في لبنان والعالم على امتداد قرن». سعت النخل بدورها إلى إعادة تجميع هذه الأسماء والأعلام الثقافية والفنية ونشرها على صفحتها على فايسبوك (شبلي الشميل، فرح أنطون، نجاح سلام، جرجي زيدان، رشيد نخلة، الأخوان تقلا، الأخوان فليفل، جورج شحادة، اندريه شديد، عصام محفوظ، يعقوب الشدراوي، ليلى بعلبكي، نزيه خاطر، جورج أبيض، ايليا أبو ماضي، شكيب خوري، شفيق عبود، محمد شامل، بول غيراغوسيان، يوسف غصوب، عارف الريس، شارل قرم، ناصيف نصار، بول شاوول، عارف الريس، عبد الله العلايلي، نضال الأشقر، سعيد فريحة، ميشال طراد..). أسماء ضمّت شعراء وأعلاماً في المسرح والدراما والصحافة والتشكيل، ربما تشملها الحلقات المقبلة من السلسلة التي لم تنتهِ بعد، أو قد تغفلها. لكن يبقى اللافت في الحلقات السابقة التي عُرضت على mtv واحدة تضيء على الشخصيات السياسية، التي «صنعت التاريخ». مئة شخصية استعرضتها الحلقة السابقة، على مدى ساعتين، تبدأ من الأربعينيات ولا تنتهي في زمننا الحالي. المريب في هذه الحلقة، جمعها أسماءً تحت عنوان «الجدلية»، فيما هي في الواقع، لا تحتمل الجدل، إذ إنه معروف مسارها السياسي أو العسكري أيام الحرب، عدا طبعاً الصيغة التحريرية التي رافقت تقديم هذه الشخصيات، فقد ظهّرت انحيازاً واضحاً في النص أو انتقاصاً من السيرة، تبعاً للشخصية المقدمة، إلى جانب طبعاً العشوائية في الاختيارات، وغياب المعايير الموحّدة.
اختلطت الأسماء ومعها السير والنضالات مع العمالة وخيانة الأوطان

هكذا، تسرّبت أغلب الشخصيات التي تنتمي إلى حزب «الكتائب» إلى الحلقة، من أعلى القادة، حتى الأعضاء في المكتب السياسي أمثال بطرس خوند، الذي ذُكر في الحلقة، مع المقاتلة السابقة جوسلين خويري. أسماء اختلط فيها التقييم، وغُيّبت حقائق دامغة عن بعضها، كما حصل مع سيرة الرئيس الأسبق رشيد كرامي الذي أُسقطت هوية قاتله، أو كذكر سعد حداد، ضمن الأسماء التي «صنعت التاريخ»، ومرور الكرام على عمالته مع «إسرائيل». إذ يقول المعدّ هنا: «تحالف مع إسرائيل لإنشاء ميليشيا ضد الوجود الفلسطيني»، لندخل بعدها إلى أنطوان لحد الذي ضمته قائمة «صارو مية». وقد وصفه المعدّ أيضاً بـ «الجدلي»، وخفف من وطأة إجرامه عندما أورد الجملة التالية: «اللي اعتُبر من مجرمي الحرب»، لنأتي بعدها إلى سمير جعجع الذي اختُصرت سيرته هنا، بكثير من التلميع، لا سيما مع اعتباره «قائد الحرب الوحيد الذي عوقب». وبعد خروجه من السجن، عاد ليتحوّل من «قاتل مقاتل»، و«رجل ميليشيا إلى رجل دولة». صبحي الطفيلي، الأمين العام الأسبق في «حزب الله» حضر أيضاً في الحلقة، ضمن الأسماء التي «صنعت التاريخ». لم يجد المعدّ، لاختياره له ـ ربما ـ سوى أنه «من منتقدي حزب الله»، فقد شكل «موقعاً معارضاً لبيئته»! هكذا، اختلطت الأسماء ومعها السير والنضالات مع العمالة وخيانة الأوطان، وارتكاب الجرائم بحق اللبنانيين وغير اللبنانيين. وُضع الجميع في سلّة واحدة، على وقع سرد منحاز وغير موضوعي لمادة تلفزيونية يُفترض أن تتنزه عن هذه الزواريب، لا أن تُسهم في تكريس الانقسام وتشويه الحقائق والتاريخ.

* «صارو ميّة» كل يوم جمعة عند الساعة 21:30 على mtv

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا