هل هذه الصور حقيقة؟ هل فعلاً يستلقي جنود أميركيون على البلاط؟ هل يفترشون الأرض في انتظار تبديل دوام ما؟ هل كان القصد من الصورة إظهار تأهبهم؟ هل هذه الصورة جاءت لتصوّب غيابهم لحظة الهجوم على الكابيتول، فظهروا نائمين بدل أن يبدوا متأهبين؟ هل هذه هي إمبراطورية «الحلم» الأميركية فعلاً؟ وهل هذا هو نفسه الجندي الذي كنا نشاهده مدهوشين بقدراته في أفلام هوليوود؟ أسئلة فرضتها الأيام الأخيرة وأحداثها على «جمهورية التسلية»، كما يرى الكاتب والناقد السينمائي الأميركي نيال غابلر Neal Gabler أميركا. فبعد الهجوم على الكابيتول- المبنى الذي أُحرق مرة واحدة في تاريخه من قبل الجيش البريطاني عام 1814 وأنقذ بمطر سمائي حينها- تتنافس أسئلة استفهام مغلقة كثيرة في أذهان محبي هذه الجمهورية وكارهيها على حد سواء. فهل يسهم ما شهده الكابيتول هذه المرة في بداية إحراق صورة أميركا الديمقراطية، موزعة الأدوار العالمية و«حامية الحرية الفردية» و«مكبر صوت الليبرالية»؟
صرفت هوليوود ومن خلفها عقوداً من العمل التقني والتكنولوجي لتجسد صورة أميركا «المبهرة» كما كان يراها العالم قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة. ويعبّر الكاتب السويسري الفرنسي ميشال بوغنون-موردان Micheal Bugnon-Mordant عن الأمر، بقوله: «جرت أفلام هوليوود طوال عقود، وهي تنقل صورة أميركا مطمئنة، محبوبة، قوية، ولا يمكن حصرها». وقد نجحت هذه الإنتاجات في إعادة تشكيل الواقع العالمي لتأكيد صورة أميركا عن ذاتها وعن الآخرين وفق معادلة هيمنتها الكوكبية. وحسب الكاتبين ضياء الدين سردار وميريل وين ديفيز، فقد سوقت هوليوود لصورة أميركا الأمة الأيقونة، أرض اليوتوبيا والأحلام، حيث عدالة الفرص وديمقراطية الحكم والحياة المرفهة والذهنية المتقدمة، مقابل أبلسة وشيطنة العدو. فعمدت منذ نشأتها إلى «تأسيد» الأميركي، مقابل تصوير الآخر وفق ما يناسب أجنداتها على أساس عرقي أو سياسي، «على مدى زمن، كانت أفلام عن المغاوير الأميركيين قد نصبّت رامبو ضخماً ودلتا فورس معجزة في قدراتها التقنوية في مواجهة إرهابيين مجرمين عرب ومسلمين ينهشهم اليأس». وقد ارتبطت هوليوود بالبنتاغون في علاقة تبادلية، إذ تؤمّن القوات المسلحة المعدات العسكرية اللازمة لفيلم معين مقابل إظهار صورة العسكريين الأميركيين كجنود مثاليين وأقوياء.
وهذا الدور الناجح الذي لعبته «قاطرة الإمبراطورية» أي هوليوود في رسم الصور الذهنية عن الأنا خاصتها مقابل كل آخر في العالم جعلها من أفضل الأدوات في تكوين قوة أميركا الناعمة، إذ يؤكد صائغ المفهوم الأخير الأميركي جوزف ناي Joseph Nye أن هوليوود أكبر مروّج للرموز البصرية، وأن مصانعها أكثر ترويجاً للقوة الناعمة الأميركية من جامعة عريقة كجامعة هارفرد «ذلك أن الإمتاع الشعبي للأفلام الأميركية كثيراً ما يحتوي على صور ورسائل لا شعورية عن الفردية وحرية الخيار للمستهلك وقيم أخرى لها رسائل سياسية مهمة».
ولكن على الأغلب، لم يكن يخطر في بال ناي حين كان جالساً على كرسيه الوثير في أحد منتجعات كاليفورنيا مسترخياً يصوغ مفهوم القوة الناعمة التي ستنقذ سمعة أميركا في العالم بعد حروب فاشلة، أن أحد رؤساء أميركا سيضر بسمعة هذه الإمبراطورية كما لم تفعل أي حرب غير محقة ولاإنسانية خاضتها أو دفعت بها في أي بقعة من بقاع الأرض. كان يؤمن أن هذه القوة الناعمة -بأبرز أدواتها الهوليوودية- تراكمية ولن يقدر أحد على التشكيك بها -ولو في لا وعيه- مهما اختلف أو اتفق مع سياساتها.. ولن يجرؤ هذا الأحد على استصغارها أو التسبب بتصويرها كديمقراطية هشة.. لكن ها نحن ذا أمام من استطاع فعل ذلك وعلى أرضه وفي عهده.. إنه دونالد ترامب..
فللمرة الأولى نرى الجندي الأميركي الحي على ظهره.. هذا المشهد الذي أوصل ترامب أميركا العظمى إليه، ضرب عرض الحائط كل القوة الناعمة التي صاغتها هوليوود بإتقان وحرفية لقرن ونيف؛ في تشكيل صورة الأميركي الذي لا يغفو ولا ينام ولا يسهو حتى.. ويربح كل معاركه بدقائق.. لم يبق من صورة أميركا وقوتها إلا التماثيل واقفة بينما جنود الإمبراطورية في غفوة..
ففي تحليل سيميائي بسيط وفق قواعد العالم الأميركي أيضاً شارل ساندرز بيرس Charles Sanders Pierce في ما يسميه السميوز، «أي النشاط الترميزي الذي يقود إلى إنتاج الدلالة وتداولها»، نرى في الصورة تماثلاً في أجساد لا فروقات فردية بينها.. كلها بلباس عسكري موحد قاتم كان يرمز إلى القوة العسكرية الأعتى في العالم، صار الآن بفضل الإطار الواسع والزاوية المرتفعة بمستوى التمثال المنتصب، معرضاً لمساءلة قوته، إذ ظهر الجمع المستلقي صغير الحجم، مما يدلل على فعل استصغار الجنود.. فهل انتبه المصور إيرن شاف Erin Schaff من صحيفة «نيويورك تايمز» إلى أن جمالية هذه اللقطة لن تغفر للحظة تعب عناصرها البشرية، وأن محاولته إظهار الجنود بجوانبهم الإنسانية الطبيعة كأنهم يسهرون على أمن «الأمة»، قد باءت بالفشل؟
للمرة الأولى، ترى أميركا نفسها ضعيفة وهشة وقابلة للشغب العنيف وللحروب الأهلية وللانقسامات الحادة، في مشهد تتسببت قيه في بلدان أخرى تتابع أخبارها عبر الشاشات. فهل يكون من صنع أحلاماً على الشاشات هو نفسه من باع أوهاماً لمشاهديه، وهو الذي يضعهم وسط كوابيس فظيعة لا نهاية لها في الواقع؟ ولكن هل اتضح هذا الآن؟ أم أن بعضهم ما زال يلتهي بالذباب الطائر أمام عينيه، فلا يرى ما هو أبعد منها؟
* أستاذة جامعية- دكتوراه في علوم الإعلام والاتصال