انتشرت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي في «المرابع الليلية» (أي حانات السهر الليلية وبعض الكازينوهات كما تسمّى أحياناً) فكرة الـ One man show. مبدأ الفكرة قائمٌ بشكلٍ مباشر على الفنان الذي يعزف ويغني ويرقص ويؤدي وصلاتٍ كاملة من دون الحاجة لفرقةٍ خلفه أو مساعدة أحد. طبعاً الفكرة هي محاولة من تلك «المرابع» لجذب الجمهور من دون التكلّف في الدفع لفرقة أو لمغن. يقوم صاحب العرض «المتكامل» هذا بتأدية أغنياتٍ معروفة، وقلّما قدّم أغنياتٍ خاصة، إذ يفضّل الحضور، الذي يكون مشغولاً بالأكل أو الشرب، أن يسمع أغنياتٍ يحفظها كي يرددها مع هذا «العارض». مع تطوّر التقنيات، ظهرت لاحقاً فكرة «الدي دجي» فاختفت تدريجاً فكرة one man show لتحل مكانها فكرة أكثر authentic هي فكرة «العواد» أو عازف «البزق» الذي يقدّم الفكرة ذاتها وإن أعطاها طابع «أصالةٍ» أكثر. هذا النقاش كلّه يأخذنا إلى فكرة «الكابتن» طوني كتّورة إحدى «ظواهر» مواقع التواصل (وتحديداً الفايسبوك) الأخيرة. يأتي طوني كتورة one man show إلا أنّه فعلياً يقدم أغنياته فحسب، لا أغنيات غيره؛ بالتالي هو حالةٌ تستحق أن تقرأ لا أن «يسخر» منها فحسب كما يلجأ كثيرون من رواد مواقع التواصل. يصدّق كتورة نفسه وإداءه وقدراته، هو يعرف أنه ليس عبدالحليم، وألحانه ليست ألحان بليغ حمدي، هو قال كلاماً مشابهاً غير مرةٍ حول الفكرة، أشار إلى أنه لا يقدّم أغنياتٍ كأم كلثوم، لكنه «بحب الناس تنبسط». لكنته بسيطة، عفوية، لغته مباشرة قاسية فجّة في كثيرٍ من الأحيان في كتابة أغنياته؛ إذ تأتي عناوين أغنياته مثلاً حاملةً كلماتٍ غير مطروقة مثل «بغل» و«حمار» و «بامية» و«مجدرة» وقس على ذلك (لكن بتذكر الكلمات غير المطروقة، هل يمكن نسيان أغنية «رهيب» للفنان السعودي عبدالمجيد عبدالله في تسعينيات القرن الماضي). لربما هذا ما جعل أغنياته تصيب بعض الناس في المباشر، خصوصاً مع سخافة وتكرار ورتابة أغنيات ما يسمى بالـMain stream العربي المعتاد أي نسيج نجوى كرم وعمرو دياب وتامر حسني وسواهم. إذ تأتي المشكلة أن المشاهد/ السامع بات لا يميّز بين أغنيات فنان وزميله، فالكتّاب هم ذاتهم، والملحنون هم ذاتهم، ومنذ سنواتٍ طوال. فضلاً عن أن الكلام قد تم استنزافه بشكلٍ مرعب مما يذكّرنا كثيراً بنهاية مسرحية زياد الرحباني المعروفة «شي فاشل» حينما يظهر أبو الزلف ليعاقب مخرج المسرحية ويشير عليه بأنه يضع «القوافي» وراء بعضها بتكرار ممل وبدون معنى حقيقي: العناقيد وراء المواعيد سائلاً بسخرية: هل ينفع إضافة «يقبّع بالركيد» (بالعامية اللبنانية وتعني أن ينطلق راكضاً) في ذات الأغنية؟
يكمن السؤال الأهم: لماذا طوني كتورة؟ ولماذا الآن؟ تحظى الطفرات عادةً بضجةٍ أكثر من غيرها. فكتورة لا يتعامل مع نفسه كما رملاء نكد أو غيرها من الطفرات التي ظهرت عبر مواقع التواصل. هو لا يرى نفسه هكذا، هو يرى نفسه «مؤدٍياً». مؤدٍ لديه code of conduct، فهو لا يغنّي في الأعياد والمناسبات، بل يفضّل السبت والأحد فقط؛ لا بل إنه يضع شروطاً على القنوات التلفزيونية التي تريد استقباله: أعطوني ساعتين، لوحدي -إذا كنتم قادرين على أن تدفعوا ما أطلبه- وإلا لا تستضيفوني؛ هو لا يريد مذيعة ترتدي ثياباً قصيرة تستضيفه كما شاباً ملتحياً «يشبه الغوريلا» على حد تعبيره. هو يعرف أنه «تريند» حالياً، ويعرف أن القنوات التلفزيونية سخيفة وتافهة وتلهث خلف الـRatings-بمعظمها- وستركض خلفه فعلياً لاستضافته، وبشروطه أيضاً. كتورة يعطي الأغنيات من «روحه»، حتى ولو لم يحبب الساخرون منه هذا التصنيف. هو يغني من كل قلبه، هو أشبه بأحدنا حينما يغنّي في المنزل وحيداً، الفارق أن كتورة مقتنع بأن صوته وأداءه جميلان ويجب أن يظهرهما للعلن. إنه مباشر في كل ما يفعله، يحدّث متابعيه عن عدد الرسائل/المسجات التي تصله وتكاد تبلغ الأربعة آلاف في وقتٍ قليل، والاتصالات الكثيرة، مما سيدفعه إلى تسليم هاتفه إلى مدير أعماله. هو صادقٌ في ما يقوله، فجمهور السوشيال ميديا «متربص»، «فارغ» كما يعاني -لا في فترات الحجر الحالية فحسب- من سأمٍ كبير يجعله يشارك فيديوهات كتورة والسخرية منها بشكلٍ علني، وقح، ووضيع في بعض الأحيان. نفس الجمهور عينه، يذهب إلى «لايف» كتورة ليرسل السلامات لزملائه، ويحيي «الفنان الكبير» كتورة ويشكره على اللايف الذي أضاف الكثير له وللفن (هذا واقعاً يحصل).
اختلاف كتورة واصراره على كونه فناناً حقيقياً لا مجرّد طفرة يجعله شيئاً مختلفاً: إنه يتعامل كما معظم الفنانين خلف الكواليس. تقريباً هم جميعهم يشبهون كتورة، لكن كتّورة يظهر الأمر أمام العلن دون وجل. إذ بماذا يختلف معظم الفنانين المعروفين في العالم العربي حالياً عن كتورة؟ لربما الفارق الوحيد هو أن بعضهم يمتلك صوتاً جميلاً أو شكلاً لطيفاً؛ الوعي؟ وقراءة اللحن الجيد والكلمة الحلوة؟ هذا أمرٌ غير موجود بالتأكيد في الجيل الحالي من الفنانين، ناهيك بأنَّ الصوت كما الشكل لم يعد هو المقياس في العصر الحالي. إذ أفرزت برامج «تفريخ الفنانين» مئات من الفنانين الذين يمتلكون الصفتين (الشكل والصوت) لكن بلا أي صنعة وحرفة تجعلهم يستمرون وتجعل الناس يحفظون أعمالهم. طبعاً ليس هناك من مجالٍ في هكذا عصر، أن ينتج أم كلثوم، فيروز، أو عبدالحليم حافظ. الأمر ببساطة: الثقافة. إذ ليس هناك من ثقافةٍ فنية حالياً. والأمر متبادل: الجمهور غير المثقف يريد نجوماً من طينته، إذ يضايقه الفنان «المتعب» ذو الأغنية التي تحتاج تفكيراً. من هنا فإن نجاح كتورة ليس مجرد طفرة، لا بل إنه سيكون فاتحةً لكثيرٍ من مجايليه الذين لم ينصفهم الزمن وقتها، فقرروا ركوب الموجة والتوجه صوب السوشيال ميديا ليكونوا نجوماً ولو بعد حين.