تحاول المسلسلات اللبنانية فعلاً. تحاول أن تؤدي حرفة «الدراما» لكنها في كثيرٍ من أحيانٍ لا تنجح، لأسبابٍ كثيرة من بينها أنّها تحاول المستحيل: المزج بين المسلسل التركي مع مشاهده المبهرجة وممثليه الوسيمين والمسلسل السوري مع حرفة ممثليه الأدائية وقصصه الدرامية الاجتماعية العميقة. «خرزة زرقا» المسلسل اللبناني الذي تعرضه «osn يا هلا الأولى» في هذه الأيّام، للمخرج جوليان معلوف، والكاتبة كلوديا مرشيليان؛ هو ليس أياً من الاحتمالين، وإن كان يحاول. يحكي المسلسل قصة معتادة، مكررة، ممجوجة لربما آلاف المرات في الدراما حول العالم العربي، واللبناني حتى. الفتاة التي تترك حبيبها الفقير كي تتزوج الرجل الغني بضغطٍ من عائلتها. وهنا الخطأ الأوّل الذي لا يجب أن تقع فيه «صانعة» دراما مثل كلوديا مرشيليان. هي تتجاهل أننا في العام 2021، بمعنى أن الفتاة المغلوب على أمرها التي تتزوّج الرجل الثري، هذه باتت من «الماضي البعيد» ألا تشاهد مرشيليان فتيات التوكتوك؟ والانستغرام؟ الفتاة -بطلة القصة- اختارت وستختار أن تكون مع الرجل الثري، بعيداً عن الحب الذي لا يطعم خبزاً؛ الحب الفقير. هذا ما وقعت فيه الكاتبة منذ اللحظة الأولى: كلاسيكية العمل المطلقة. ثم هناك العاشق الولهان الذي لم ينس حبيبته وصدمته الأولى. هذا أيضاً «كلاسيكي/معتاد/مكرر» للغاية. أيضاً نحنُ في عصرٍ آخر، السرعة في العلاقات وبنيانها وحتى طبيعة الحياة نفسها. هذه النمطية في الحب كما العلاقات المراهقة قد انتهت إلا في عقول صنّاع الدراما في العالم العربي. قد لا يموت الحب بشكلٍ كلي، لكنه يأخذ أبعاداً مختلفة وطرائق أخرى. بمعنى: لن ينتظر البطل حبيبته العائدة بعد سنوات عصوراً طوالاً، هذا كان يحدث في خمسينيات حتى سبعينيات القرن الماضي، في عصرنا؟ لا. طبعاً القصة لا تبتعد أكثر من هذا إلا بمقدار حاجة النص: الأب الذي يموت سريعاً، والذي يترك رسالة «مرئية» لابنته شارحاً ما يحدث، مع العلم أنه كان قادراً على «مهاتفة» ابنته؛ لكن «ألعاب» الدراما تفترض خلق هذا «الوهم». طبعاً هناك الثري -زوج الابنة- الشرير -في صورة نمطية منهكة-؛ والإبن «المريض النفسي» الذي لا نفهم ماهيته سوى أنه «يحب الاغتصاب»؛ وهي صور/شخصيات أكل الزمان عليها وشرب.
أدائياً، يمكن القول وبالفم الملآن بأن معتصم النهار لا يجيد التمثيل مطلقاً. يمتلك الشاب السوري وجهاً «جامداً/ثابتاً» لا يتحرّك أبداً، في كل الحالات والمواقف؛ هو يعاني لأخذ «موقف» مما يحدث، لكن ذلك لا يظهر عليه. وهو منذ أدائه العادي في «باب الحارة» حتى اليوم، لا ينجح إلا في توظيف شكله في صنعة الدراما لا أكثر ولا أقل. على الجانب الآخر، تحاول رولا بقسماتي لتكون على مستوى الشخصية، هي لا تتكئ على جمالها، وهذه نقطة تحسب لها كثيراً في الدراما اللبنانية حيث العارضات وعمليات التجميل أسياد الموقف. تنجح بقسماتي في تقريب الشخصية من المشاهد في غالبية مشاهدها، حتى إنها تتفوق دائماً في المواجهات بينها وبين معتصم النهار، الذي يبدو «ساهماً» وأضعف منها أدائياً في أيٍ من مشاهدهما المشتركة. لبنانياً أيضاً، تنجح كارمن لبس كعادتها في أن تكون خارج نطاق المنافسة الأدائية محلياً. تكفي مشاهدة مشهدها مع «ابنتها» (رولا بقسماتي) كي نفهم حرفتها العالية وقدرتها على «تلبس» الشخصية وارتدائها بكل سهولة. باختصار كارمن هي ربما أفضل من أنجبت الدراما اللبنانية حتى الآن كمؤدية. نفس الأمر وإن كان بدرجةٍ أقل يمكن أن يقال حول أداء بديع أبو شقرا، الذي يؤدي بحرفةٍ عالية، وإن كان يعاب عليه ولو قليلاً غرقه في شخصية «الشرير» الكاريكاتورية التي رسمها له النص (وهنا يمكن القول بأن هذا ليس خطأه هو، بل مشكلة النص). أيضاً يجب الإشارة إلى ممثلين لبنانيين يبذلان مجهوداً كبيراً هما سيرينا الشامي، ووسام صليبا، وإن حشرهما النص المكتوب ضمن شخصيات «مسطحة» لا أفق للحراك/الأداء الواسع فيها؛ لكنهما حاولا وفي بعض الأماكن نجحا في تقديم شخصيتين قويتين. سورياً حضر كالمعتاد بقوة ممثلان قديران هما جهاد سعد وفاتن شاهين؛ ويمكن الإشارة إلى دور فاتن باعتباره من أفضل أدوارها؛ في دور «الجد«» العميقة والمتفهمة، بعيداً عن التنميط السابق لها والذي حصرها في دور «الأم النكدية/الحزينة».
إخراجياً، يحاول جوليان معلوف خلق مسلسل «تركي» بإمكانيات محلية ومشاهد جميلة من الطبيعة اللبنانية. وهنا مربط الفرس ومشكلته: لبنان ليس تركيا، وما ينجح في تركيا ليس هو ذاته. مثلاً: هذه الفيلات والشوارع والبيوت الفارهة ليست حياة إلا فئة قليلة للغاية من اللبنانيين والإصرار على «متابعتها» كما لو أنك تقول هكذا نحن وهو غير صحيح. في المسلسلات التركية يصورون القرى والبيوت العادية لكن باستخدام طرائق تجعل الطبيعة والألوان تبدو براقة مذهلة. حاول جوليان معلوف ولربما عليه أن يحاول بشكل أكبر وأعمق لخلق «توليفة» تمزج بين اللبناني والتركي؛ هذه حتى اللحظة لم تنجح. باختصار، هو مسلسل فيه حسناته وسيئاته، مشكلته أنه كغالبية المسلسلات اللبنانية خلال آخر ثلاثين عاماً، لن تعيش أكثر من اللحظة التي تعرض فيها.
__
* يومياً الساعة 20:00 بتوقيت بيروت على «osn يا هلا الأولى»
__