غالباً، لا تشكل المسلسلات التلفزيونية اللبنانية، أي تحفيزات للكتابة عنها بسبب الضعف والهشاشة في النصوص والتمثيل والإخراج. في مسلسل «للموت» (بطولة ماغي بو غصن ودانييلا رحمة وباسم مغنية (إخراج فيليب أسمر)، برزت طلائع من شأنها نقل الدراما التلفزيونية اللبنانية إلى مستويات أخرى، للحاق بركب الدراما التلفزيونية في دول المنطقة العربية. لا يعني ذلك أن «للموت» (كتابة نادين جابر)، لا تشوبه مشاكل في بنيته الخارجية والداخلية. فأين أخفقت الدراما اللبنانية هذه المرة؟ وهل يُعد النجاح الجماهيري الذي رافق المسلسل أمراً جيداً؟ لنبدأ من الورق، استخدمت كاتبة العمل «الشخصية الستارية» في مسلسل «للموت»، أي وضع شخصية تناقض شخصية أخرى، من حيث الطبيعة النفسية. سحر (ماغي بو غصن)، أقوى وأكثر شراسة وفتكاً وخبرة وحنكة من ريم أو وجدان (دانييلا رحمة). بهذا التناقض تأكدت سمات كل شخصية منهما، ما سهل على المتفرج استنباط الفوارق بين الشخصيتين، وزاد من مساحة اللعب في التمثيل.
تشكل سحر وريم إلى جانب عمر (باسم مغنية) تريو، مهمته القيام بصفقات زواج، يقع ضحيتها رجال أعمالٍ كبار، بداعي السرقة والنصب والاحتيال وتجميع الثروة. طفولة قاسية عاشها «التريو» على الطرقات، وما رافقها من تعذيب وجوع وقهر وحرمان واغتصاب، جعلتهم يحتلون هذه المكانة المجتمعية، بدواعي الانتقام وما يرافقه من تخبطات نفسية.
قرّر مخرج العمل، فيليب أسمر في بداية كل حلقة، أن يصور مشاهد «فلاش باك» عن هذه الطفولة القاسية. هنا، بدأ الخلل الإخراجي الأول، فالتعرف إلى الشخصيات لا يتم من خلال رواية الأحداث وتصويرها وتلقينها. على المحاكاة أن تكون من خلال الأفعال التي تقوم بأدائها وتحدّد خصائصها وطبائعها. فالنصب والاحتيال اللذان تمارسهما سحر وريم على زوجيهما الشقيقين هادي (محمد الأحمد)، وباسل (خالد القيش)، والأحداث التي تتكشف تباعاً، كظهور زوج سابق لسحر وقع ضحيتها من قبل، والقصص المرتبطة بالحي الشعبي، والعطف على الأولاد المتسوّلين... كل ذلك كان كفيلاً في إبراز تاريخ الشخصية، بدل استرجاع مشاهد الطفولة القاسية وتلقينها بـ «الملعقة» للمتفرجين.
في الإخراج أيضاً، وثّقت عدسة أسمر، الملامح الدقيقة والبارزة للممثلين، في محاولة للغوص في العوالم الداخلية لكل شخصية. لا ضير في ذلك، إلاَّ أن تصوير الانفعالات الداخلية لم يأتِ موفّقاً على قدر التطلعات. تجسيد الانفعالات كالغضب -بعد معرفة سحر بزواج ابنة أخيها القاصر، والحيرة (دانييلا تلتحف السماء في بداية المسلسل، غارقة في حيرة بين الحب ومهمة النصب)، والقلق (الجلوس على مائدة العشاء بعد كشف مخطط سحر وريم من قبل الزوجين)، أتت على شكل النظر في دوائر فارغة. فلماذا عمد المخرج إلى تصوير الـ close up في حين أن الممثل لا يقوم إلا بحركات خارجية غير مستمدّة من الروح.
من هنا نأتي للحديث عن الحبكة: يقوم «للموت» على تصاعد الحبكة، ما يشكل لدى المتفرج، كثيراً من التشويق والمتعة والإثارة لدى المشاهد. لكنّ ذلك أتى على حساب تعزيز أفكار المتفرج، وجعله يبحث عن مفاهيم تكرسها هذه المحاكاة، وتحفيزه على التعمق والتحليل لأخذ موقف محدد مما يراه أمامه. فالأحداث واضحة، لا تحتمل التمحّص والتفكير. ولّد ذلك راحة نفسية واكتفاء ذهنياً لدى المتفرجين.
هنا، يكمن الخلل الأكبر. فلم يكن «للموت» رحلة بحث تُدخل المتفرج في تساؤلات عن هاتين الشخصيتين ودوافعهما: ما الذي يجعلهما تتصرفان هكذا؟ هل تستحقان التعاطف، أم النبذ؟ هل يمكن التماهي معهما؟ هل يمكن إلقاء اللوم على الطفولة القاسية؟ هل هما ضحية المجتمع الفاسق؟ هل مبررات أفعالهما تقودهما إلى هذا التطرّف والجموح؟ لماذا تورّطت الشخصيتان إلى هذا الحد في وحول المجتمع بعدما حقّقتا كل ما تريدانه؟ ألم يُشف الانتقام لديهما؟ كان المسلسل مجرد «حدوتة» قدمت التشويق والإثارة والمتعة فقط.
من حيث اللغة، أجادت نادين جابر استعمال اللغة المحكية، من مصطلحات شائعة «أوبا»، وتعبيرات دارجة «إنفخ باللبن»، لكنها في الوقت نفسه، عمدت إلى استخدام الخطاب المباشر في كثير من الأحيان. يقول محمود (وسام صباغ) أمام المحقق أثناء توقيفه بعد سرقته سيارة ليبيعها ويشتري بها جهازاً تنفسياً لوالده: «والحراميي الكبار مين بحطن بالحبس»، فما نفع استخدام مثل هذه العبارات بأسلوب مباشر؟ ولِمَ لم تُترجم مثل هذه الأفكار، فيزيولوجياً أو حسياً، بحسب ما يقتضيه مسار كل شخصية، ويُترك للمشاهد استنباط العواطف والأفكار؟ ولماذا لم تُستبدل عبارات أخرى من قبيل «بدي ياكي تتعلمي، لإن العلم سلاحك» بعبارات لها خصوصية للشخصية؟
على المستوى التمثيلي، أبرز من قدّم أداء إبداعياً: رندة كعدي، علي الزين، كارول عبود، روز الخولي والخادمة منى. يؤكد هذا، أن لبنان مليء بالطاقات الإبداعية المخبَّأة في القعر، فكان جيداً إظهار مهارات الممثلين اللبنانيين في عمل رمضاني. أجاد باسم مغنية بدور «عمر»، تجسيد شخصية المضطرب، نتيجة ما عاشه من قساوة. يدخل في لعبة الاحتيال مع حبيبته ورفيقته سحر، ينفعل بطريقة جنونية، يضطرب، يتعاطى الهيرويين، يحب العنف والخطف والتسلل إلى البيوت. كل ذلك أتى في سياق مبسّط وعضويٍّ. لذلك أتت الشخصية «لبنانية» بامتياز، أي قريبة إلى الواقع المعاش، بعيداً عن التبجّح في الأداء التمثيلي.
الأخوان هادي وباسل (محمد الأحمد وخالد القيش)، قدّما الصورة النمطية للأغنياء: يعملان في العقارات، لديهما رجال حماية وأجهزة تخابر، بيوت فخمة، لباس فخم. لكن في الحقيقة، من هما؟ تحديداً من هو باسل؟ من أي خلفية أتى؟ ماذا يحب. وماذا يكره؟ هل هو فقط رجل عقارات أراد الزواج؟ ولماذا تعلق هادي بريم إلى هذا الحد؟
بالنسبة إلى البطلتين. ينمّ أداء ماغي بو غصن عن حرفية عالية، ومهارة جيدة في التمثيل. وقدّمت دانييلا رحمة الأداء التمثيلي في طريقة ممتعة، خاصةً في تجسيد الترف والغنى. التقطت كل ممثلة «تيمة» الشخصية (حركات يكررها الممثل لتطبع الشخصية التي يؤديها)، أتقنت كل واحدة اللباس، المكياج، طريقة المشي، طريقة الكلام، حركات الوجه، وكل الخارج المحسوس للشخصية.
ينبغي لنادين جابر أن تُشرك آخرين في الكتابة والمعالجة الدراميتيْن


كان واضحاً مدى الانغماس في الشخصية والنية الصادقة لكل ممثلة بالإبداع. لكن بقي الأداء منمطاً إلى أبعد حدود، وأتت ثمار تدريباتهما وعملهما على الشخصية من الخارج أكثر من الداخل. فالعمل على أداء الشخصية، يتم على صعيدين: الخارج المحسوس، والداخل، ليتحقق الوفاق بينهما ويصل الممثل إلى مرحلة الإبداع الفني. على الشخصية أن تكون من لحم ودم، أن تعكس ما تضمره في أعماقها للمتفرج. من المتعارف عليه، أن يسبق التمثيل ما يُسمى بدراسة الشخصية. تُعد الدراسة هذه من المقوّمات الرئيسية في عالم السينما والمسرح. في يومنا هذا، لم يعد مسموحاً بأن لا يخضع الممثل لدوراتٍ وورشٍ لصقل موهبته، ثم بناء الشخصية التي يحضرها. إن دراسة الشخصية تبدأ من الكاتب، ثم المعدّ، بعدهما الممثل. حلقة متكاملة يغوص فيها الجميع في أدقّ تفاصيل الشخصية. تتضمن دراسة الشخصية تفاصيل لا يشاهدها المتفرج ولا تظهر للعلن، وإنما تعزز بناء الممثل لمستويات الشخصية. مثلاً: الشخصية هذه تعاني من حساسية اللاكتوز، أو لديها ندوب في جسدها. في مسلسل «للموت»، خضع بعض الممثلين لإعداد مماثل، لكنه بقي في الإطار الخارجي، ولم ينجح في الإعداد الداخلي للشخصية: كيفية إشعال السيجارة، وطريقة المشي، والتقاط التيمة. هذا ليس كافياً.
«للموت» يُعد نقلة جيدةً في الدراما التلفزيونية اللبنانية، وعلى الكاتبة نادين جابر أن تُشرك آخرين في الكتابة والمعالجة الدراميتيْن، لأنها تحمل قدرات جيدة على مستوى كتابة النصوص. على صنّاع الدراما اللبنانية أن يقوموا بإنشاء Writing Room، ويُشركوا أكثر من كاتب ومعالج درامي في النص، لأنه متى ما تحقّق غرض الكتابة الدرامية، تتحقق كل عناصر الدراما.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا