في فيلم الـ «ماتريكس» (1999) تطرح الشقيقتان واتشاوسكي فكرة مفادها أنّ ما يعيشه البشر من واقع ليس أكثر من «حياةٍ/ واقع افتراضي» Virtual reality؛ وبأنَّ الآلات هي التي تسيطر على الحياة مستخدمةً البشر «كبطاريات» تغذية لا أكثر ولا أقل. كثيرةٌ هي الأفلام التي تناولت الأمر وقاربته وإن بدرجاتٍ متفاوتة. كان فيلم ready player one (2018) للمخرج ستيفن سبيلبيرغ الذي تحدّث عن مستقبل «مظلم/ ديستوبي» حيث الفقر هو المسيطر والناس يعيشون معظم أوقاتهم في مجتمعاتٍ إفتراضية «خلابة» و«خلبية/وهمية» في الوقت عينه. ذاك هو باختصار ما يريد مارك زوكربيرغ وزبانيته من أصحاب شركات مواقع التواصل ومن لف لفيفهم فعله في المجتمعات ككل.منذ 17 عاماً، وتحديداً في العام 2004، أسس مارك زوكربيرغ مع زميليه في جامعة هارفارد كريس هيوز وداستين موسكوفيتز الموقع الذي اعتقده «بديلاً» عن «التواصل الاجتماعي» الحقيقي بين الطلاّب. لم تكن فكرة زوكربيرغ آنذاك أن يحوّل الكوكب كلّه إلى «مجتمعٍ جامعي». الفتى الحالم بأن تعرفه الفتيات، تغيّرت وجهة نظره اليوم. أصبح «منظّراً» مستقبلياً، يعرف تماماً، كيف يسيطر عبر شركته ومثيلاتها لا على السوق اليوم، بل على الأسواق القادمة: شريطة أن يكون هناك كهرباء ووقود وإلكترونيات تستطيع الاستمرار طويلاً. شركة ميتا التي حلت بديلاً عن اسم شركة فيسبوك حينما غيّره زوكربيرغ، في مؤتمر كونكت 2021، تطرح فكرة «عالم الكون المتعدد» (MULTI VERSE). يدعم زوكربيرغ الفكرة بفيديو يشرح فيه نظريته وكيف يصبح «الواقع الافتراضي» واقعاً معاشاً واقعياً يمكِّن الإنسان من أن يعيش أحلامه وحياته لو أراد في ذلك العالم الإفتراضي؛ مضيفاً أن الشركة ستركّز معظم انتاجاتها المستقبلية على مجموعة من التطبيقات التي تسمّى «مختبرات الواقع الإفتراضي» التي تختص بهذا الشأن. جمل المخترع الأميركي الصورة كثيراً: أناسٌ يلعبون الشطرنج مع «أفاتار» وهمي، لكنه في الوقت نفسه «شخصٌ» واقعيٌ يجلس خلف شاشته في منزله. يحدث الأمر اليوم لكن ليس بالطريقة التي يحكي عنها زوكربيرغ؛ ما يريده الرجل هو غوصٌ أكثر في عالمٍ وهمي سيصبح واقعاً مئة في المئة وشيئاً فشيئاً.
مع بداية الألفية، قلل بيل غايتس من أهمية الإنترنت، ومواقع التواصل ــ لاحقاً ـــ ساخراً من أنّها لن تحصّل على تلك القيمة الكبيرة بنظر الجمهور، وبأنها ستنبذ لاحقاً. جاوره في ذلك منافسه من شركة «أبل» ستيف جوبز، الذي لم يحب الإنترنت، ولا كل فكرة مواقع التواصل: انتهى هذا العصر إلى غير رجعة. باتت مواقع التواصل وتطبيقاتها «كنز» الشركات، لكونها مجانيةً بمعظمها، تصل إلى «كل الناس» عبر أرجاء الكوكب. وهي إلى حدٍ ما «جامعة» لا تميّز بين شخص وآخر، وهذا يعطيها ميزة كبيرة كمخترقة «بأمان» (Privacy innocent killer)؛ تمكّن الشركات من ولوج بياناتٍ لا يشاركها الإنسان بإرادته، فضلاً عن تسليمها «بكل سهولة» من دون نقاش. لكن الأمر أعقد من ذلك بكثير: من يتابع سلسلة «بلاك ميرور» البريطانية الشهيرة، يمكنه ملاحظة المرات الكثيرة التي تناولت فيها السلسلة مواقع التواصل. شاهدناها مثلاً في حلقة white Christmas تتحدّث عن جو الذي تعرض للـ «بلوك» من قبل خطيبته «بيث»، وكان خلافهما حول «قيامها بإلإجهاض». ترفض «بيث» الإجهاض، لتنجب لاحقاً طفلاً يعلم «جو» أنه موجود، لكنه لا يستطيع رؤيته واقعاً: لأن نظام البلوك في ذلك العصر أصبح «واقعياً»، بالتالي هو لا يستطيع واقعياً رؤية «بيث» أو «أي شيءٍ يخصّها» ومن ضمنها طفله/ طفلته. في الحلقة ذاتها، نشاهد قصة ثانية حول شخصٍ تعرّض لـ«البلوك الدائم» من قبل شركة من شركات مواقع التواصل. إنه لا يستطيع أن يرى أحداً بشكلٍ حقيقي. فقط «خيالات» لأشخاص، لا يستطيع التواصل مع أحد، لا يستطيع حتى «دفع» مستحقاته أو نيلها، إنه تحت «البلوك». هنا «نحنُ» واقعاً أمام «الحقيقة» التي يتحدّث عنها «الميتافيرس» ما إن تم تطبيقه.
تطرح فكرة الميتافيرس فكرة الأفاتار باعتباره ممثلاً للمشارك/البطل/صاحب الحساب على مواقع التواصل، حيث سيعيش و«يمثل» هذا «الأفاتار» حياة بطله. من هنا وكما في معظم ألعاب الفيديو الحديثة، يستطيع اللاعب أن يشتري «اضافات» لتقوية شخصيته، جعلها أجمل، مرغوبة أكثر، أو على الأقل لنيل حظوة أكثر في أي مكانٍ يريده. هنا تأتي الأموال بمثابة «طريق مختصر» كما هي في الواقع، فيستطيع مثلاً لاعب لا يجيد اللعب لكنه يمتلك المال الكثير من التغلب على «محترفي» اللعبة بسهولة فائقة: إنه يملك المال الكثير. هذا يحدث في الواقع، وهو سيكمل كذلك في الواقع الإفتراضي. هنا لا بد من التنبه بأن المشاعر في هذه الألعاب حقيقية، ولو كانت اللعبة «وهمية». فالإنتصار هو انتصار، كما الهزيمة، هذا المفهوم يبدو مستحيلاً أو صعباً لمن لم يلعب ألعاب فيديو من قبل، لكن يمكن ادراكه بسهولة إذا ما نظر إلى تشجيع أي رياضة واقعية، هذا يشبه ذاك. في الوقت عينه، نجد المشاركين مستعدين «لدفع ما فوقهم وتحتهم» لكي يكون بطلهم جاهزاً أو قادراً على الأقل؛ فمثلاً في بلادٍ تبلغ كلفة لعبة عادية مثلاً حوالي خمسين دولاراً أميركياً (وهو مبلغ كبير في كثيرٍ من الدول من ضمنها لبنان) قد يحتاج اللاعب إلى 100 دولار أو أكثر لتطوير شخصيته ودعمها كي يكون قادراً على الاستمرار في اللعب بالشكل الذي يريده.
هذا هو بيت القصيد بالنسبة لمارك زوكربيرغ ومشروعه حكماً: إما أن تدفع كي تستطيع شخصيتك التطوّر، والاستمرار والتقدّم أو عليك أن تفكّر بطريقةٍ يمكنك الدفع بها. هذا الأمر تم التطرّق إليه في فيلم «لاعب» (Gamer) للمخرجين مارك نيفلند وبراين تايلور، فنحن أمام واقع أكثر رعباً حينما يصبح البشر هم الأفاتار/ الدمى المحركّة بالنسبة للاعبين. تحوّل الإنسان الحقيقي لأفاتار في «لعبة» أو في واقع «متخيل» هو عمل ينتج مالاً؛ هنا يتم التحكم بالبشر كما لو أنّهم عبيد أو آلات لا أكثر ولا أقل من قبل «مستخدم» يسيطر عليهم «بشكلٍ كلي برضاهم أو بعدمه». هنا يرضى البشر بأن يفعلوا ذلك لتحصيل «أموال» و«إضافات» لشخصياتهم أو على الأقل «كي يتمكنوا من الأكل والشرب» فحسب.
المشكلة الثانية التي يمكن الوقوف عندها مطوّلاً هي الأمر الذي طرحته فرانسيس هوغين، عالمة الانترنت، وإحدى الشخصيات التي أضاءت على الفكرة حينما تحدّثت مسبقاً خلال هذا الشهر أمام الإتحاد الأوروبي شارحةً أنَّ الأمر مرعب وإدماني، ويشجع الناس على «الإبتعاد عن الواقع الذي نعيش فيه والغوص في عالمٍ وهمي كليةً». تضع كثير من ألعاب الفيديو في مقدّماتها «ملاحظاتٍ/ تحذيراتٍ» حول اللعب لفترات طويلة، وكيف أنه يسبب الإرهاق الذي قد يصل عند البعض إلى حالاتٍ من «الصرع». الميتافيرس لن يضع تحذيراتٍ كهذه بشكلٍ ظاهر، بل لربما لن يضعها البتة. بحسب دراسةٍ فنلندية حديثة، يقضي الإنسان ما مقداره ثلاث ساعات يومياً في فتح واغلاق هاتفه لرؤية ما هي الإشعارات التي وصلته أو ليطل على الإنترنت: لاحقاً وإذا ما اصبحت حياة الإنسان في عالم «الميتافيرس» اضطرارية/احتياجية: سيلبس نظارات العالم الإفتراضي، ويرتدي سماعات الأذن، كأي لاعب ألعاب «ببجي» حالي، وينسى أن هناك واقعاً أصلاً إلا في حال احتاج الدخول إلى الحمام أو تناول الطعام. سيخوض نقاشاتٍ وحوارات افتراضيةٍ في أي مكان في العالم، لكنه ببساطة: لن يكون هو، هو يعتقد ذلك. الحقيقة تختلف تماماً، ما هو هناك «صورةٌ وهميةٌ عنه» لا تشبه الواقع أبداً، فالكل في الواقع الإفتراضي «لا يكذب» ولكنه «يتجمّل» (أي يحسّن الصورة) كما تشير قصة المصري الكبير إحسان عبدالقدوس «أنا لا أكذب ولكني أتجمّل»، حيث تصبح الصور «معدّلة» والأشكال «غير دقيقة» والشخصيات «محسّنة» غير واقعية.
باختصار، ما يطرحه زوكربيرغ اليوم، مرعبٌ بما فيه الكفاية، سيصل يوماً إلى اللحظة التي سيصبح الإنسان كما تقول مقدّمة مسلسل «ضيعة ضايعة»: «أصبح عبداً للتكنولوجيا»، تسيطر عليه وقد لا تصل البتة إلى مرحلة الوعي الذاتي «الديستوبي» المدمّر، لكن البشر أنفسهم، هم من سيكونون أداة هذا الدمار.