ليس عادلاً إطلاقاً أن يدفع الناس ثمن «الريسيفر» الملوّن (جهاز الاستقبال)، ثم يثبتونه كقطعة «كايك» (حلوى) تحت التلفزيون كي يبتهجوا بمصادرة القناة القطريّة لشغفهم. إنه جهاز عصري، بنفسجي ورقيق، لكنه باهظ الثمن، ويحتفظ بأسرار المونديال البرازيلي لأصحابه وحسب. في البداية، هذا ليس عادلاً، وخصوصاً إذا نظرنا إلى المبالغ التي يدفعها العرب، أو «سكان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا»، بلغة العقود الاحتكارية المبرمة مع «الفيفا» لقاء هذه الخدمة. وهي لغة مستمدة من عولمة البشر، تهدف إلى توضيبهم في مصنفات تناسب مقاسات العرض والطلب. لكنّ نقاشاً مثل هذا استنفد بلا جدوى، ولن ينفع شيء في تغيير الصورة، العربيّة على الأقل. بعد كل شيء، يجب أن نضع الريموت كونترول جانباً، لبعض الوقت، ونثبت الصورة على إمبراطوريّة «bein سبورت»، الرياضيّة في ظاهرها، التي يمكن أن يحمّل انتشارها وسطوتها أبعاداً ثقافيّة أعمق بكثير. لنتحدث قليلاً عن المقابل الذي يحصل عليه المشاهد العربي لقاء هذه المبالغ التي يدفعها بانتظار أن يتسنى للتلفزيون الوطني، الذي تسول المونديال، توفير إمكانات لائقة لنقل المباريات، من دون أن يكون صوت الجمهور شبه مختفٍ.
وربما، آنذاك، يكون صوت المعلّق واضحاً لا تشوبه ذبذبات تنافس الارتجاج في البث، المنقول عن التلفزيون التركي الشقيق. المعلّق اللبناني اللطيف لحسن الحظ.
ما لا يعرفه كثيرون، من غير المتابعين، هو كاريزما المعلّق، وحضوره كشخصية مؤثرة بين المشاهدين. المعلّق، على قناة «الجزيرة» الرياضيّة سابقاً، و«بي إن سبورت» حالياً، وقبلهما، «راديو وتلفزيون العرب»، وربما أوربت ESPN. محطات في الذاكرة، نوستالجيا لفظيّة لا أكثر، وإن كانت قد تركت أصواتاً ما زالت تصدح الآن في موسمها، موسم كرة القدم واحتفال العالم بالركلات وضربات الجزاء ورقصات اللاعبين. بعض هؤلاء أمضى وقتاً طويلاً فعلاً، وهو ينحت اسماً في ذاكرة الجماهير. وقد حفظ هؤلاء صوته، على الأرجح، أكثر مما حفظوا أسماء خطباء المنابر، وجماعة التلويح بالأصابع، الجالسين على كراسي الأبد. نتحدث هنا مثلاً، عن صاحب «الردحيّة» الشهيرة، المعروفة بـ«يووووزع»، المعلّق التونسي الشهير رؤوف خليف، الذي حوّل صرح «استاديوم أوف لايت» ذات مرة، إلى «ملعب أوف لايت». هي ترجمة ليست رديئة فحسب، بل مضحكة. وهي أهون حالاً، من صوت يوسف سيف، المعلّق القطري، صاحب الصوت الرخيم، الذي لا يفوت مناسبة، من دون أن يذكر ليونل مسي، وحكمة الله، الرحمن الرحيم. يبدو هذا جناساً محبباً، رخيم ورحيم. لكن المعلّق القطري، حاله حال معظم المعلّقين على القناة القطريّة، يعرفون إلى أي جمهور يتوجهون. وفي مباراة فرنسا وسويسرا، أول من أمس على القناة الصوتيّة الرديفة، تباهى المعلّق بالأصول المسلمة لبعض اللاعبين الفرنسيين. تلهى، كما درجت العادة، عند النقشبندي (والاسم حقيقي وليس مزحة، ويعود لمعلّق «يتعاون» مع القناة القطريّة»)، أو عند سيف، أو حتى عن المعلّق فارس عوض سابقاً، عن متابعة المباراة، وانصرف إلى نقاش يتخذ طابعاً دينياً يلامس الحوزويّة أحياناً، ويميل إلى الوعظ. ويرفق المعلّقون تعليقاتهم الدينيّة هذه، عموماً، بترتيبات صوتيّة على حافة الخشوع، هذا إذا ما أضافوا إلى الركلات الركنيّة آراءهم في الثوارت بسوريا ومصر وليبيا وتوس، ونادراً جداً فلسطين. لكل معلّق سلوغان خاص، وهي تتفاوت بين «يا رباه»، و «يا إلهي». نتحدث عن مجتمعات مؤمنة هنا، وليس غريباً أن تسطو عليها «داعش» وثقافتها.

يوسف سيف لا يفوت
مناسبة من دون ذكر ليونل مسي، وحكمة الله

وبمعزل عن رداءة لفظ الأسماء، وتعريبها على نحو شعبوي يضمر استخفافاً بالمشاهد، يستغرب الأخير ضحالة المعلّق الثقافيّة، باستثناء بعض الأسماء، كالمعلّق التونسي، عصام الشوالي، الذي يحظى بأفضليّة واضحة على زملائه الذين يفرطون في ذكر الله، في مناسبة أو بغيرها. في مباراة فرنسا وسويسرا الأخيرة، وهما فريقان «كافران»، يلعبان في «أرضٍ كافرة»، أفرط معلّق الصوتيّة الأولى الجزائري، في مديح فرنسا منبهراً بأدائها، ما استفز الكثير من الجزائريين. بيد أنه أهون حالاً من معلّق آخر، أشعل نقاشاً عن هويّات اللاعبين الدينيّة، وسجال مثل هذا أقام الدنيا في فرنسا ولم يقعدها، غير أن معالجة الفرنسيين للموضوع لا ترتكز على السماء، كما يصرّ المعلّقون العرب. وفيما تعلّق بلديّة برلين لافتة في شوارعها، تقول «ابتسامتك في وجه أخيك المؤمن صدقة»، وهي قول لرسول المسلمين، محاولةً التودد إلى هؤلاء، ينصرف معلّق عبقري إلى التذكير بأن صانع ألعاب المنتخب الألماني، مسعود أوزيل، يقرأ الفاتحة قبل كل مباراة، كذلك فإنه يصوم في رمضان. لا حول ولا قوة إلا بالله، هل يكترثون على TF1 إن كان يوهان كاباي يذهب إلى الكنيسة؟ قطعاً لا. وعلى هذه السيرة، لا بد من ذكر المعلّق المصري الطيب، أحمد الطيب، الذي علّق على مباراة البرازيل والمكسيك، وما انفك يردد «كل ده من فضل ربنا»، و«الحمد لله»، و«نعمة بالله».
وعلى ذمة المعلّق المهضوم، فإن «الشكر من بعد الله سبحانه وتعالى»، لحارس المرمى الذي طار، وصدّ الكرة، قبل أن تتجاوز خط المرمى. حسناً، طار. لكن «العناية الإلهيّة»، لم تمنع من تحول حارس المنتخب السعودي قبل مونديالين إلى عداد على غرار عدادات الكهرباء، يحصي الكرات ويلمها من الشباك خائباً كما لو أن موقعة أُحُد حدثت من جديد. والعناية نفسها لم تحم المنتخب الإيراني، أول من أمس، من تلقي هدف حاسم في الدقيقة الأخيرة، عندما أرسل ليونل مسي صاروخاً نووياً وديعاً إلى الشباك. حسناً، الحارس طار. طار، ولكن لا داعي لأن يذكّرنا المعلّق، في كل مرة، بتلك النكتة السمجة، التي تقول إن العرب هم أول من حاول الطيران. وإن كانت تلك المحاولة الساذجة التي ركب فيها صاحبها جناحين لا تخلو من الطرافة، فإن استحضارها في معرض استلاب مجدٍ زائف، ليس حدثاً لطيفاً أبداً، وخصوصاً أنّ تكراره يبعث على ملل لا يطلبه المشاهدون. صديقنا المعلّق: عباس بن فرناس، ليس لاعباً في المنتخب الكولومبي لكرة القدم، والدولة العباسيّة، لم تتأهل إلى مونديال البرازيل!