لم يوفر السيناريست الفلسطيني الشاب زكريا أبو غالي فرصة الافادة من الهامش الذي تتيحه صناعة الدراما المستندة إلى أحداث واقعيَّة مقارنةً بالأفلام التسجيليَّة والوثائقيَّة وغيرها، فختم مسلسله الأخير «شارة نصر جلبوع» (كتابة أبو غالي بالشراكة مع محمود منصور وإخراج حسام أبو دان وانتاج «القدس اليوم» و«ميدل تاون») الذي قدّم بشكل جذَّاب ومشوق حكاية الأسرى الستة الذين كسروا القيد وانتزعوا حريَّتهم في أيلول (سبتمبر) الماضي، بمشهدٍ متخيَّل يمكن تصنيفه بسهولة - بالنظر إلى تنامي قدرات المقاومة في قطاع غزة وتعاظم قوَّتها - ضمن فئة «الخيال ممكن الحدوث».بعدما استعاد المشاهد بحزن لحظات وقوع الأسرى الأحرار تباعاً في قبضة العدو، فاجأه الكاتبان في الحلقة الأخيرة بمشهد يتضمّن محاكاة لصفقة تبادل فرضتها المقاومة متضمّنة بنداً أوَّل هو خروج الأسرى الستة إلى النور مجدّداً في تظهير لحلم يراود كل أنصار المقاومة.
الحلقات الثلاث الأخيرة كانت الأقوى من الناحية الفنية وحظيت بقدر أعلى من التشويق مع تصاعد الحدث الدرامي إثر تحرّر الأسرى عبر نفق الحرية وتحرّر أبو دان وفريق عمله بدورهم من جدران السجن كموقع تصوير شبه وحيد طغى على حلقات المسلسل منذ بدايته.
ورغم كون الحادثة حقيقيَّة وسياقها معروف مسبقاً بالنسبة للمشاهد، إلا أن التفاصيل التي قدّمها الكاتبان - بالاستناد إلى مجهود استقصائي كبير – حول وقائع الأيام التي فصلت بين تحرّر الأسرى وإعادة اعتقالهم صنعت الفارق ونجحت في حبس أنفاس المشاهد، بالإضافة إلى لمسة أبو دان الإخراجية التي تتغلب دائماً على ضعف الإمكانات، فضلاً عن أداء الممثلين الرفيع خصوصاً «سداسي البطولة»: علي نسمان بدور محمود العارضة، لؤي نجم بدور محمد العارضة، محمد خُروات بدور أيهم كممجي، مهند قاسم بدور مناضل نفيعات، إياد البلبيسي بدور زكريا الزبيدي، وحسن النجار بدور يعقوب قادري.
التلاحم اللبناني الفلسطيني في مواجهة العدو كان حاضراً في المسلسل انطلاقاً من رؤية وقناعة يتشاركها الكاتبان مع المخرج والجهة المنتجة، حيث تضمّن العمل تحية إلى عميد الأسرى اللبنانيين الشهيد سمير القنطار من خلال حكاية متخيّلة تحاكي عشرات القصص الحقيقية لأسرى فلسطينيين، بطلها هو الأسير حاتم الذي ينجح في الإنجاب عبر تهريب نطفة إلى زوجته خلود ويطلق لاحقاً إسم سمير على المولود تيمناً بالقنطار الذي جمعته به من قبل زنزانة واحدة فتأثر به وتعلم منه الكثير. وكانت رغبة الكاتبين في تقديم القنطار بجانبه الإنساني من خلال هذه الحكاية واضحة عبر عدد من الحوارات التي تجمعه بحاتم، خصوصاً أن القنطار هو من أوائل الأسرى الذين فتحوا باب مطالبة إدارة السجون الإسرائيلية بالاعتراف بحق الأسرى في الإنجاب، حيث يُنسَب إلى رئيس وزراء العدو آنذاك شمعون بيريز قوله «لن يحظى سمير القنطار بفرصة أن يرى ذريّته»، قبل أن تكذّبه المقاومة وتحرّر عميد الأسرى فيتزوَّج وينجب ثمَّ يمضي شهيداً على درب فلسطين.
والمفارقة أنَّ هذا التلاحم كان حاضراً أيضاً في المسلسل اللبناني «ظل المطر» (كتابة فتح الله عمر وإخراج شادي زيدان وانتاج مركز بيروت) من خلال التنسيق الدائم بين غرفة العمليّات المعلوماتيّة في المقاومة بقيادة الحاج حسين (مجدي مشموشي) وبين إحدى فصائل المقاومة في غزّة عن طريق أحد ضباط المقاومة الأمنيين عقيل (عدي رعد)، والذي ينتج عنه كشف الكثير من مخططات العدو للسَّاحة اللبنانيَّة ضمن عمليَّته الأمنيَّة التخريبيَّة التي حملت اسم "ظل المطر".
وإذ فوجئ المشاهد بانتهاء المسلسل عند حلقته الرابعة والعشرين، فإن اطلاعه على ظروف إنجازه وعامل الوقت الضاغط قد يشكّل عذراً مقنعاً له خصوصاً في ظل سعي فريق العمل إلى تجنّب الحشو والتطويل المفتعل الذي قد يأتي عن طريق مطّ الأحداث وإغراق الحوارات الوعظ والخطابة ما يصيب المسلسل بالترهل والمشاهد بالملل، فقد أنجز القيّمون على «شارة نصر جلبوع» مهمتَي الكتابة والتصوير في ثلاثة أشهر أضيف إليها أقل من شهر استغرقته عمليات المونتاج وإنجاز الشارة والموسيقى التصويريَّة!
وكان لافتاً تعامل الإعلام الإسرائيلي مع المسلسل حيث توقف أكثر من تقرير في القنوات الإسرائيلية عند قدرة صنّاعه وبوقت قياسي على مواكبة الحدث بعمل فني متكامل استلزم إنشاء مبنى يشبه إلى حدّ بعيد سجن جلبوع الحقيقي ليكون موقعاً للتصوير، فضلاً عن مدى دقة المعلومات التي قدَّمها المسلسل حول حادثة الفرار وتطابقها مع المعطيات والخلاصات التي أفرزتها التحقيقات الإسرائيليَّة.
وإذا كانت حادثة انتزاع الأبطال الستة حرّيتهم قد أعادت قضيّة الأسرى إلى الواجهة من جديد، فإنَّ المسلسل أعاد الحادثة نفسها إلى تصدّر اهتمامات المتابعين في الوطن العربي بأسره، خصوصاً أنَّه حظي بفرصة عرض لم تعهدها الدراما الفلسطينيَّة من قبل. يدرك صنّاع العمل ذلك جيداً، ويدركون حتماً ما عليهم فعله كي لا تغيب هذه القضيّة عن صدارة المشهد مستقبلاً.