قبل 16 عاماً، دمّر جيش الاحتلال الإسرائيلي معتقل «الخيام» بشكل كامل عبر غارات متتالية. تدمير جغرافي لأشهر شاهد على الجرائم الفظيعة التي ارتكبها بحق الأسرى اللبنانيين، ظناً منه بأن إزالة معالمه ستمحو تاريخه وعذابات الأسرى والشهداء من الذاكرة. دُمّر معتقل «الخيام» في عام 2006، وبقيت زنازينه وعواميده وصرخات أسراه مخلّدة في الأرشيف البصري التلفزيوني والفردي. كان لا بد من الاتّكاء على توثيق المكان ورمزيته وما يختصره من مرحلة في حقبة الاحتلال الإسرائيلي، لإعادة صناعة مادة توثيقية تلفزيونية، تخلّد الماضي والحاضر وحتى المستقبل، وتضع بين أيدي الجيل الجديد وثيقة عن تاريخ بلاده وتعريفه أكثر إلى وحشية كيان الاحتلال. هذا ما فعلته المُعدّة شيراز حايك في السلسلة الوثائقية «ما تركناهم» (إخراج أمير مهدي ــــ إنتاج «الميادين») التي تمتد على أربعة أجزاء، وتوثّق مرحلتين بين معتقلَي «أنصار» و«الخيام».
اسم السلسلة المستوحى من خطابات لقادة المقاومة، أشهرها عبارة الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله: «نحن قوم لا نترك أسرانا في السجون»، سيأخذنا إلى حقبة الثمانينيات، وسياقاتها التاريخية عبر تخصيص جزءين لكلّ من المعتَقلين. يضيء الجزء الأول الذي يحمل عنوان «أنصار 1»، على مرحلة إنشاء «معتقل أنصار» عام 1982، بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، والظروف التي واكبته، من تشكّل نواة للمقاومة، وتشعّبها في البداية، إذ تقول لنا حايك إنّ الوثائقي يحرص على المرور على جميع المقاومات التي خرجت في تلك الفترة، من أحزاب «الشيوعي»، و«السوري القومي الاجتماعي»، و«حركة أمل»، والفصائل الفلسطينية، ضمن سياق تاريخي، إلى جانب الإضاءة على قادتها، وعلى رأسهم الشيخ راغب حرب، ومحمد سعد، وخليل جرادي. مقاومة عسكرية تزامنت مع نشوء مقاومة مجتمعية، تجلّت بعيد الاجتياح، لعلّ أبرزها «انتفاضة النبطية» (عام 1983) التي يوثّقها الشريط. وقتها، أوقف الأهالي ملالة إسرائيلية. يتضمّن الجزءان الأوّلان (أنصار 1 و2)، توثيقاً لمرحلة امتدت من عام 1982 إلى عام 1985، بعد إقفال «معتقل أنصار»، وانسحاب جيش الاحتلال من بعض مناطق الجنوب، وإنشائه ما سُمّي بـ «الشريط الحدودي».




في الجزءين، سرد تاريخي لمرحلة الأسر، وسياقاتها العسكرية واللوجستية، وربط ما بين الماضي والحاضر، من خلال مقابلات مع أسرى سابقين، وقفوا مجدّداً في ذاك المكان، ليعيدوا تأريخ تلك الحقبة بمراراتها، ونضالاتها الفردية والجمعية. ولعلّ أبرزها هنا، عملية ما سُمّي بـ «الفرار الكبير»، الذي فشل في المرة الأولى، ونجح في المرة الثانية، مع هروب نحو 70 أسيراً من هناك. هنا، أيضاً، سيظهر في الشريط أحد الأسرى الفارّين والشاهد على تلك العملية آنذاك سمير خفاجة، إلى جانب القيادي في «حزب الله» محمد فنيش الأسير السابق في «أنصار»، والقيادي في «حركة أمل» خليل حمدان المواكب لتلك الحقبة. وعلى الرغم من حصر سجن «أنصار» بالرجال، الا أن للنساء دوراً هنا، من خلال استضافة الأسيرة السابقة خديجة حرز ذات القصة المؤثّرة. فقد اعتُقلت مع زوجها ورُحّلت إلى فلسطين، وبقي زوجها في «أنصار». مرحلة السرد التاريخي ومواكبة شهود العيان، قابلتها صعوبة تقنية، تمثلت في معالجة المواد الأرشيفية النادرة لـ«معتقل أنصار»، إذ تحكي لنا حايك عن الوقت الذي استغرقته معالجة الصور الأرشيفية والاستعاضة في بعض مراحل السرد بتقنيات حديثة، كالـ «أنيميشن»، كما حصل لدى التعريج على عملية «الفرار الكبير» التي نُفّذت بتقنية الأبعاد الثلاثيّة. انتهت مرحلة «أنصار» مع إقفاله، ونقل أسراه إما إلى فلسطين المحتلة، أو إلى «الخيام» الذي كان، في البداية، مسرحاً للتوقيف والتحقيق من قبل الاحتلال الإسرائيلي، قبل أن يتحوّل عام 1984، إلى أبرز شاهد على جرائم الاحتلال بحق الإنسانية.
في الجزءين الأخيرين (الخيام 1 و2)، ننتقل إلى «الخيام» عبر لمحة تاريخية، تحدثنا عن أصله بوصفه ثكنة عسكرية فرنسية أنشئت عام 1933، ونجول بعدها في الذاكرة إلى تلك الأعوام التي شكّلت حقبة من التعذيب والقمع والقتل المتعمّد للأسرى، وما حاول فعله الإسرائيلي من تدمير كامل لمعالمه. إلا أن الأرشيف الضخم لغرف تعذيبه وزنازينه، بقي الشاهد على كل هذه الجرائم. في الجزءين الأخيرين أيضاً، سعت السلسلة إلى ربط الماضي بالحاضر، عبر استحضار شهادات لأسرى، كانوا حاضرين سابقاً في موادّ أرشيفية في المعتقل قبل تدميره، في عملية دمج ما بين زمنين. واللافت هنا، ظهور أحد السجّانين في المعتقل ويُدعى «طانيوس»، ليتحدث عن أساليب التعذيب وتطوّرها، وعن فظاعة ما كان يُرتكب آنذاك بحق الأسرى. ولأن «الخيام» كان يضم آنذاك، حيزاً للنساء، فإن الشريط يضيء أيضاً على ما تعرّضن له من تعذيب فاق التصور، إذ تظهر هنا، الأسيرة السابقة نوال بيضون، لتتحدث عن مراحل التعذيب والألم التي لم تفرق بين رجل وامرأة، وعن نساء أجهضن داخل السجن، أو حُبسن مع أطفالهن الرُّضَّع حتّى. وللعجزة الأسرى أيضاً حصتهم في العمل، فقد قضوا بعدما عجزت أجسادهم عن تحمّل قساوة التعذيب، إلى جانب المفقودين الذين جرى إخفاء جثثهم بعيد وفاتهم، ولم يعرف ذووهم مكان دفنهم.
أسرى سابقون أعادوا تأريخ تلك الحقبة بمراراتها ونضالاتها الفردية والجمعية

وكما حال جزئية «أنصار»، كذلك في «الخيام»، عمد القيّمون على السلسلة، إلى ربط الحقبة السابقة بالحالية، من خلال استحضار الأسير رياض كلاكش، وابنه، اللذين ظهرا سابقاً في شريط قبل تدمير المعتقل، وها هما يعودان في الشريط، بعد التدمير، ليجولا في المعتقل كما فعلا سابقاً، مع فارق الزمن والملامح الجغرافية للمكان. معتقل «الخيام» وما يختصره من رمزية مقاومة، شاهدٌ على وحشية جيش الاحتلال الإسرائيلي، ولا بد من إرفاقه بعدد الشهداء الذين قضوا هناك، وبالظروف القاهرة التي واكبت تلك الحقبة، خاصة قبل دخول «الصليب الأحمر» المعتقل عام 1995... وأيضاً، بالسياقات التاريخية التي تجلّت في ازدياد وتيرة عمليات المقاومة وبدء عمليات تبادل الأسرى، وصولاً إلى «التحرير» عام 2000، وتحطيم أسرى «الخيام» أقفال زنازينهم وتسجيل صرخاتهم الأولى قبل 22 عاماً، وزيارة السيد حسن نصرالله للمعتقل. باختصار، توثّق السلسلة لحقبة تمتد من عام 1978 حتى عام 2000، عبر أربع حلقات، تضيء على مرحلتين فاصلتين في تاريخ لبنان الحديث. توثيق تأخذه حايك على عاتقها وتصنّفه كـ«مسؤولية أخلاقية ومهنية» سعياً لحفظ الذاكرة الجمعية، ولتعريف الأجيال الحاضرة والقادمة إلى تاريخها ونضالات أبناء شعبها.

* «وما تركناهم»: كل أحد 21:00 على شاشة «الميادين»