مات عدنان الحاج، زميلنا في المهنة، وصديقنا في الحياة، قبل أن يموت بسنوات. وبموته تغيب صفحة أخرى من فكرة «السفير»، التي انطلقت بوصفها أحد ترجمات الفكرة العربية الأمّ التي أطلقها جمال عبد الناصر، والتي جمعت العقول، وأشعلت القلوب، وسامت بالأرواح، وأطلقت الحناجر، وألهمت الإرادات، وحثّت الأفعال، وأيقظت الهمم ونشرت الوعي الوطني والقومي وعمّمته... قبل أن تتلاشى وتذوي ومن ثم تموت موتها المعلن، لا لعطب في الفكرة بل لبلادة التفكير وميكانيكيته التي أصابت زمنها الناهض، وأعجزت «صاحبها ورئيس تحريرها» الصديق طلال سلمان، قبل أن تنتقل إلى سائر مفاصلها الحيوية التي ساهمت، بتناغمها، في صنع بريقها الذي تجاوز لبنان إلى أرجاء قصية من العالم العربي.مات بعض «السفير» يوم تحول قسمها السياسي إلى صالون لـ «العلاقات العامة». وصار قسمها الثقافي نزلاً لعديمي الموهبة ومعوزي الخيال. وصفحات رأيها مكباً لقيء الأفكار وفضلاتها. وقسمها الاقتصادي كشكاً للصيرفة...
ومات عدنان يوم مات بعض «السفير»، قبل سنوات من موتها الفعلي، المعروف في عام 2016. لكن موته لم يتأكد إلا بعد إغلاق الجريدة لأبوابها.
مات بعض «السفير» يوم غادرتها المواهب والعقول التي جاءتها من كل فجّ لبناني وعربي عميق.
مات بعض «السفير» يوم غادرها جوزف سماحة هارباً، وهو الذي تصدّى لمهمة استنقاذها، وتجديد شبابها، من خلال الأبواب التي ابتكرها، والملاحق التي أضافها، والروح التي بثّها وكاد أن ينجح لولا...
مات بعض «السفير» بعد ابتعاد جهاد الزين غاضباً، وباسم السبع تائباً سياسياً ووطنياً وأخلاقياً واجتماعياً، وارتحال حازم صاغية نحو «الأجوبة السهلة» وإقامته المستقرة في ربوعها، وانسحاب الياس خوري إلى مكان لم يرحب به كما يجب وإن أعطاه فسحة أضيق مما كان يستحق واستكانة عباس بيضون وتسليمه.
مات بعض «السفير» بين يدي «صاحبها، ورئيس تحريرها» قبل أن تموت على أيدي من تسلل إليها للبناء على رأسمالها الوطني والقومي والعبث به.
ماتت «السفير» وتركت فراغاً كبيراً. وهو فراغ كان ليكون موحشاً وقاتلاً لولا «الأخبار» التي تجهد لأن تكون صوت الناس لا صوت حكامهم. و«شريكة» للمقاومة التي تنهض بمهام الغد العربي الواعد والمختلف، ورفيقة لأحرار العالم ومضطهديه.
ومع ذلك فإنّ الحزن على فقد «السفير» يرافقه خشية على «الأخبار» جراء التحديات الكبيرة التي تواجهها، وبعضها من تحديات البلد المنهار. فالصحيفة الوطنية الأخيرة التي تتصدّر الإعلام العربي المكتوب، تعاني ما يعانيه ناس البلد وأهله، لكن لا خوف عليها البتة. وهي أمنع من أن تلقى ما لاقته «السفير» التي وافتها المنية على يد تجار المهنة ومتدنيي المعرفة وطوابير الانتهازيين اللاهثين خلف الارتقاء الاجتماعي الزائف أو الباحثين عن «نجومية» «فايسبوكية» و«تويترية»، بعدما كانت عامرة بالكفاءات الذين أضافوا لها وأضافوا عليها من بلال الحسن وجوزف سماحة إلى ناجي العلي ومحي الدين اللباد وجهاد الزين وحازم صاغية وعباس بيضون والياس خوري... إلى قائمة ربما كانت غير طويلة لكنها كانت فاعلة ومؤثرة ليس في المشهد اللبناني فحسب وإنما في المشهد العربي الأوسع.
ثم أن الأمل بتجاوز الصعاب له أساساته المتينة، فجوزف سماحة، وخلافاً لما أجبر عليه في «السفير»، لم ينفصل عن «الأخبار» إلا مكرهاً، لكنه، وهذا ما يغيظ المتربصين، ما يزال حاضراً فيها ومعها من خلال الإشراف المباشر على خطها التحريري النقدي الرافض للمساومات الصغيرة والكبيرة ومصححاً لهناته الهينات. ولأنه فعلها مكرهاً فإن ثمة أمل بأن تنجح في عبور المطبّات وتجاوز الشراك، أقله من حيث الفكرة التي فرضت ولادتها في يوم النصر اللبناني والعربي في الرابع عشر من آب 2006. طاوية بذلك ستة عشر عاماً من «القتال» دفاعاً عن المقاومة اللبنانية التي هي أثمن ما يملكه لبنان وفلسطين وباقي المنطقة.
لكن، مهلاً، فاتنا أن نضيف إلى موت عدنان و«السفير» التي ارتبط بها ارتباطاً وثيقاً، مثل كثيرين من أبناء «السفير» وبناتها، احتضار أو موت أو فشل أو تراجع أو ضمور أو خمول آخرين ساهموا في موتهما.
مات العمل اليساري يوم أحللنا حنا غريب محل جورج حاوي ونقولا الشاوي وخليل الدبس.
واحتضر العمل السياسي يوم صمتنا على تولية رفيق الحريري كبديل عن سليم الحص وتقي الدين الصلح ورشيد كرامي.
واحتضر العمل النيابي يوم أوصلنا من أوصلنا من تجار التغيير ومرتزقة السفارات ومخبريها لتمثيل الناس بدلاً من نجاح واكيم وألبير منصور...
وفشل «الاقتصاد اللبناني» يوم لم نمنع إسقاط المرابي الصغير محل «الحاكم» إدمون نعيم.
وانتهى العمل النقابي يوم أحللنا الياس أبو رزق مكان أنطون بشارة ومصطفى العريس وعبد الأمير نجدة والياس الهبر...
وماتت نقابات المهن الحرة يوم استبدلنا من لا اسم له ولا صفة ولا تاريخ على رأس كبرى النقابات محل جاد ثابت وعاصم سلام وأنطون ثابت...
وضمرت الصحافة يوم صارت «نقابتها» تصدر زجليات لا طعم لها ولا لون من مثال الزجلية التي أبنت فيها زميلنا عدنان الحاج.
مات عدنان الحاج وارتاح من مطاردة وهم يسكننا جميعاً. وهم اسمه البقاء أو القدرة عليه.
لكن العبرة التي علينا حفظها أن في الموت قيامة ولو تأخرت. وهي ما نعمل له ونراهن عليه، ولا بد سنصل إلى القيامة التي تحرّر إنساننا بعد تحرير أوطاننا الرازحة تحت أثقال الاستعمار وقبضات نفاياته الغليظة والغليظة جداً.