يمتلك النظام السعودي تاريخاً حافلاً من القمع والاستبداد، يكتب فصوله اليوم أمير شاب طموح جمع كل السلطات بين يديه، وأوّل مَن نكّل بهم هم أولياء الدم، فكانت غزوة «الريتز» التي توّجته على صراع العروش داخل بيت آل سعود. تلاها تقطيع جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول في رسالة للعدو والصديق، ورمي النشطاء ورجال الدين والمدونين، نساءً ورجالاً، في السجون. قال «أنا ربكم الأعلى» على وقع الموسيقى وأضواء حفلات الترفيه التي سال لها لعاب المشاهير من الشرق للغرب. رقصوا على جثث وآهات المعذبين في المعتقلات، تقاتلوا وتشاتموا على مَن يربح رضى الأمير ولا عزاء للأصوات الحرة في مملكة القمع. دفع محمد بن سلمان للتجسّس على المواطنين والنشطاء، وحوّل مجموعات كبيرة إلى مبلّغين حكوميين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بحجة الواجب الوطني، والتهمة الجاهزة «التشجيع على المشاركة في أنشطة تضرّ بأمن واستقرار المجتمع والدولة». ولدى الحكومة السعودية سجلّ «مشرّف» لمحاولات اختراق منصات التواصل الاجتماعي، واستخدام المراقبة الإلكترونية المتقدمة، عبر تطبيق «كلنا أمن»، وشراء برامج التجسس الإسرائيلية التي كانت أولى ثمار التطبيع مع العدو.

آن كيرنان ـ برلين

أحكام السجن القاسية التي صدرت منذ فترة، كشفت عن حقبة جديدة في التاريخ السعودي مليئة بالخوف والقمع والأحكام المرعبة بحق نشطاء الرأي في المملكة، ما فضح هشاشة الإصلاحات والتحرّر الاجتماعي الذي تبناه محمد بن سلمان مقابل سلب الحريات السياسية والمدنية. «يريد بن سلمان تقديم مدينة جديدة لامعة، ومهرجانات رقص؛ بدلاً من الحقوق الأساسية لمواطنيه، وهي رسالة واضحة بأن الحرية يجب أن تكون على هوى النظام فقط» تورد صحيفة الـ «غارديان» البريطانية.
للمرة الثانية خلال أقلّ من شهر، حكمت محكمة سعودية على نورة القحطاني بالسجن 45 عاماً، بتهمة نشر منشورات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، سبقها الحكم على سلمى الشهاب بالسجن 34 عاماً. حكم اعتبر سابقة في تاريخ القضاء السعودي، لو احتسبنا سنوات السجن لكل من القحطاني والشهاب مع سنوات منع السفر بعد الإفراج عنهما، سيظهر لنا رقم قياسي تستطيع مملكة ابن سلمان المشاركة به في موسوعة غينيس كأطول حكم ضد حرية التعبير في العالم.
وكانت السلطات السعودية قد ألقت القبض على طالبة الدكتوراه في جامعة «ليدز» البريطانية والأم لطفلين الناشطة سلمى الشهاب، أثناء قضائها عطلة في المملكة. وأدانتها المحكمة المختصة بقضايا الإرهاب «بأنها تدعم من يسعون إلى إحداث اضطرابات في النظام العام، ونشر أخبار كاذبة وشائعات مغرضة». لكن مَن يتابع حساب سلمى، لن يجد سوى تغريدات سلمية ومطالبات بإصلاحات نسوية وسياسية وصور دعم للقضية الفلسطينية. منظمة «هيومن رايتس ووتش» كشفت في تقرير لها أنّ «وتيرة القمع في المملكة تزايدت عقب تخفيف العزلة الديبلوماسية عن محمد بن سلمان، والحكم الفظيع الصادر بحق سلمى الشهاب؛ يشير إلى أن السلطات السعودية تعمل الآن بكامل قوتها لسحق المعارضة بكل أشكالها».
حملة التضامن مع الناشطة الشهاب، شملت المعتقلة نورة القحطاني وهي أم لخمس بنات، طالتها تهم فضفاضة، من قبل المحكمة الجزائية المتخصصة للإشراف على قضايا الإرهاب. وكانت المحكمة قد أصدرت حكماً بالسجن لحوالي نصف قرن، بتهمة الإساءة لسمعة ولي العهد محمد بن سلمان والمطالبة بالإفراج عن المعتقلين، وحيازة كتاب للداعية المعتقل سلمان العودة.
صحيفة The New European البريطانية، وصفت واقع الحياة المرعب داخل مملكة الأمير الدموي، الذي يدفع أموالاً طائلة تفشل حتى اليوم في تلميع صورته، بأنّه «في ظل نظام ابن سلمان، فإن واقع المملكة يختلف تماماً عن العالم الذي تصوره إعلانات «نيوم» الخيالية، حيث يختفي العشرات من المواطنين العاديين كل عام، في حملة قمع لا هوادة فيها على حرية التعبير». رجال الدين الذين كانوا يد الحكم الضاربة قبل سنوات قليلة، نالوا نصيبهم من القمع الملكي. بعد إسقاط حكم سابق بالبراءة، حُكم على إمام المسجد المكي، صالح آل طالب، بالسجن عشر سنوات لانتقاده الهيئة العامة للترفيه، وإدانته الحفلات التي عدها خروجاً عن الأعراف الدينية والثقافية للبلد المحافظ. وبينما تشير مصادر سعودية إلى اعتقال سليمان الدويش بسبب تغريدات قيل إنّها تشير إلى الملك سلمان وابنه، تدور حول مخاطر استلام الأبناء المدللين السلطة بعيداً عن الرقابة والمساءلة، كشفت المصادر كيفية اعتقال الدويش في مكة، ونقله جوّاً إلى مكتب ابن سلمان. وبحسب الروايات، فقد اعتدى ابن سلمان شخصياً على الدويش بالضرب واللكم وأمر باحتجازه في قبو أحد قصوره.
استخدام المراقبة الإلكترونية المتقدمة عبر تطبيق «كلنا أمن»


من جانب آخر، عاد تطبيع العلاقات مع كيان العدو الإسرائيلي بالنفع على دول الخليج، إذ أسهم في ما بات يعرف بـ «ديبلوماسية برامج التجسس». وتعد شركة «بيغاسوس» الصهيونية من الشركات المفضلة لحكام السعودية والإمارات والبحرين، وتم استخدام برامجها لاستهداف العشرات من النشطاء والحقوقيين. وكشفت مجلة «تايم» الأميركية، أن النظامين في الرياض وأبو ظبي، يقفان في طليعة من يستخدم وسائل التواصل الاجتماعي للتضليل ونشر دعاية لدعم أنظمتهما، وتعزيز الاستبداد الرقمي. وكانت منصة تويتر قد أوقفت في عام 2019 نحو 100 ألف حساب مزيف يروّج لنظام ابن سلمان وابن زايد.



توبة... توبة!
أطلقت السلطات السعودية سراح الكاتب نذير الماجد الذي كان معتقلاً في سجون النظام لأكثر من خمس سنوات. وكان الماجد قد اعتُقل داخل قاعة المحكمة الجزائية المتخصصة في الرياض في منتصف كانون الثاني (يناير) 2017، لينال حكماً بالسجن لمدة سبع سنوات على خلفية اتهامه بـ «كتابات مؤيدة للمظاهر الاحتجاجية في منطقة القطيف، والمطالبة بإصلاحات سياسية ورفع التمييز عن أبناء المنطقة الغنية بالنفط». بالتزامن مع خروج الماجد من المعتقل، خرج إلى الحرية الشاعر الفلسطيني المقيم في المملكة، أشرف فياض، بعد أكثر من سبع سنوات أمضاها في المعتقل، وبعد إسقاط حكم الإعدام بتهمة «الردة والتعدي على الذات الإلهية»، ليخفض الحكم إلى السجن ثماني سنوات و800 جلدة بعد نشر إعلانه التوبة! صرح على إثرها الأمين العام للاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين، الشاعر مراد السوداني بأنّ فياض سيعود إلى عمله وإقامته في السعودية.