يحظى مسلسل «مايك» ( 2022 ــــ إنتاج شركة «هولو») الذي يروي حكاية الملاكم الأميركي الأكثر شهرةً مايك تايسون (1966)، بكل شيءٍ تقريباً. إنها قصّةٌ تروي النجاح والفشل في آنٍ معاً، وحشٌ ورجلٌ في جسدٍ واحد، مجرمٌ وملاك تائبٌ في حكاية، وبالتأكيد أصغر بطلٍ للوزن الثقيل في تاريخ الملاكمة. المسلسل الذي يأتي في ثمان حلقاتٍ، المقتبس عن سيرة غير رسمية لحياة تايسون، رُفِضَ من قبل تايسون الذي اعتبر أنّه لا يمثّله وهاجم «هولو» مراراً لأنّهم قاموا بإنتاجه.ربما قُدمت العديد من الأعمال الأدبية والفنية التي تناولت سيرة تايسون، لكن ميزة هذا العمل أنّه يغوص، للمرة الأولى، في طفولة الفتى الذي سيتحوّل بعد سنواتٍ قليلة إلى أعظم «مقاتلٍ» في تاريخ عالم الملاكمة. «لقد كان وحشاً كاسراً» هكذا عنونت إحدى المجلات يوماً وهي تروي عراكاً شارك فيه تايسون بمواجهة مجموعة من «حراس أحد الأوتيلات»، فـ «ضربهم جميعاً». يومها، أعلن القاضي أنَّ «يدا تايسون سلاحٌ فتاك» ولا يجدر به إشهارهما في العلن أو استعمالهما في شجارٍ «محلي».
المسلسل الذي كتبه الأميركي ستيفن روجرز، (يذكره الجمهور مع فيلمه المشهور «أنا تونيا»/ 2017 عن حياة الراقصة على الجليد تونيا هاردينغ)، يستخدم تقنياً «الرابط». ويكون الرابط بين الحلقات، وبين المُشَاهد، هو العرض الحي والفردي (one man show) الذي قام به تايسون على «مسرح برودواي» لرواية قصّة حياته وأسماه Mike Tyson: Undisputed Truth في العشرية الأولى من القرن الحالي.
يستخدم روجرز هذه التقنية لربط المشاهد والتفاصيل. منذ الحلقة الأولى التي عنونت بتسمية «لص»، نفهم أننا نتحدّث عن شخصية مختلفة. ولكون العنوان مباشراً فعلاً، نجد أننا أمام تايسون الذي يبهر الممثل تريفانتي رودز بلعب شخصية تايسون كما لو أنه فعلياً هو. يظهر روجرز خوف تايسون أثناء أدائه العرض الحي. إنه خائفٌ من نفسه، ومن الجمهور، لكنه مع هذا يضحك بسخرية، حتى ضحكاته تبدو خائفة ومرتجفة ذات لونٍ قاتم. يروي حينما كان طفلاً خائفاً يريد ضربه الجميع: لقد كان طفلاً ممتلئاً، وهذا ما يجعل الآخرين يرغبون بضربه حتى من دون أي سبب. إننا أمام طفلٍ خائف، لا تحبه أمّه (أوليانيك أديلي). هو يشير إلى ذلك، كما إلى علاقة أمه لورنا ماي الملتبسة مع «من يعتقد بأنه والده» ثم طردهما إلى الشارع، واضطرار والدته لإعالته هو وإخوته ولو بطرقٍ ملتوية، جعلت الصبي لا يعيش حياةً عادية، أو ينشأ ضمن أسرةٍ طبيعية. مع تقدّم الحلقات، نضحي أمام فتى يريد بكل الطرق أن يجد مكانه في هذه الحياة: وبطبيعة الأمر، فإن الطريق الوحيد أمامه هو الإجرام: لقد أضحى مجرماً، لصاً، وحتى enforcer يستخدمه بقية الفتية لضرب آخرين. هذه الحياة المجنونة والخطرة، سرعان ما ستدخله ليس إلى إصلاحيةٍ فحسب، بل إلى جميع الإصلاحيات في المنطقة. يشير تايسون إلى أنها أضحت «بيته الثاني». كل هذا سيتغير حينما سيكتشف في الـ 13 من عمره رياضة الملاكمة، التي ستفتح عينيه كما حياته على عالمٍ آخر. عالم مليء بالأمل، والحلم بحياةٍ مختلفة. هنا يظهر كاس ديماتو الذي يلعب دوره بكل مهارة هارفي كايتل. إنه الأب الذي كان يحلم به مايك، والمدرب الذي يحتاجه، والعائلة التي لطالما اعتقد أنها لن تكون له. ديماتو المدرّب الفذ والأسطوري لبطلي العالم في الملاكمة، يتبنّى ديماتو تايسون بشكلٍ عملاني وفعلي، ويصبح مدربه ووالده بالتبني، ومثله الأعلى. يحدد له طريقه حتى وهو لا يزال في الرابعة عشر من عمره: أولمبياد الشباب، ثم الألعاب الأولمبية، ثم الاحتراف في الثامنة عشر، ومن ثم بطولة العالم سريعاً. هذا الطريق سار عليه تايسون بشكلٍ حرفي، على الرغم من رحيل ديماتو بعد صراعٍ مع مرضٍ عضال. في الوقت عينه، يمرر المسلسل علاقات تايسون النسائية، خصوصاً مع زوجته الممثلة روبن غيفنز (لورا هارير) التي يصوّرها المسلسل على أنّها «وجهٌ جميل لكن متسلقة وخبيثة». درّب ديماتو تايسون كملاكم، لكنه كشاب مراهق لم يتم تربيته أبداً، لقد أثّرت حياة الإجرام والسجون والإصلاحيات عليه، فلم يترب على عيش علاقاتٍ طبيعية. «لقد كنتُ خائفاً، لذلك أُبعد الناس عني» يقول بشكلٍ مباشر، وهذا أثّر على حياته الطبيعية، «لم أكن أعرف كيف أتحدث مع الفتيات». يتفاقم هذا الأمر مع قضية ديزيريه واشنطن (لي ايبانكس) إحدى مرشحات ملكة الجمال التي اتهمت تايسون باغتصابها، وأثبتت محكمة أميركيةٌ حدوثه.
هاجم الملاكم الأميركي الشهير المسلسل المقتبس عن سيرة غير رسمية

ولا ينسى المسلسل تناول العلاقة الملتبسة التي جمعت بين الملاكم الشهير وبين متعهد الملاكمة المعروف دون كينغ (راسل هورنسبي) الذي أثر كثيراً عليه، بدءاً من علاقته بزوجته وصولاً إلى تفاصيل حياته الأخرى.
أدائياً، تحتاج مسألة تأدية دور مثل تايسون إلى جهدٍ كبير، لأسباب كثيرة أبرزها أن تايسون لا يزال حياً، ومشهوراً للغاية، ويظهر على مختلف وسائل الإعلام الكلاسيكية والحديثة. ثانياً، تمت تأدية شخصيته مراراً في أعمال كثيرة، من هنا كان تريفانتي رودز أمام تحدٍ كبيرٍ: تطوير جسده ليشابه جسد مايك في تلك الحقبة، والتحدث بلثغة مايك الشهيرة، فضلاً عن ضبط ضحكته وصوته ليشابها ما لدى الشخصية الأصلية. ومن المتوقع أن يضع هذا الجهد الشاق، رودز على قائمة المرشحين لجائزة أفضل ممثل في دور رئيس في جوائز الـ «إيمي» المقبلة. تقنياً بذل المخرج جهداً كبيراً في خلق جو سيرة مختلف حول حياة تايسون. إحدى أبرز التقنيات التي يستخدمها العمل هو «كسر البعد الرابع»، حيث نجد تايسون يقاطع المشاهد ويتحدّث إلى المشاهدين وإلى الكاميرا، ونجده مثلاً يظهر بعمره الحالي في فلاشباكاته الزمانية وهو حدثٌ أو طفلٌ في تعليق ما. مثلاً حين يسرق تايسون الطفل شيئاً ما، نجد تايسون الكبير يحدثنا عن حقيقة مشاعره، وحقيقة ما حدث. في الوقت نفسه، تظهر حرفة الإخراج من خلال مشاهد قوية مثل تلك التي نرى فيها الكاميرا تتحرّك بشكلٍ دائري، فيما يسقط أعداء تايسون الواحد تلو الآخر حوله راسمين دائرةً. يتأثر العمل بأعمال سكورسيزي كثيراً، فنجد مشاهد مشابهة لتلك من فيلم «كازينو».
إشكالية المسلسل الوحيدة وربما الكبيرة، أنه لا يختار جهةً ليحدد المشاهد ما إذا كان عليه أن يقف خلف مايك ويؤيده ويدعمه، أم أن عليه أن يراه «شريراً». قد يجد بعضهم هذا أمراً جيداً، ويكسب المسلسل قوةً لناحية «عدالته» في تصوير الشخصية الرئيسية. في كل الأحوال، سواء أحببت مايك تايسون أو كرهته، فإنه في النهاية شخصيةٌ تمتلك الكثير لتقوله.

* «مايك» على «هولو»