خلال السنوات القليلة الماضية، قدّمت الدراما البريطانيّة مجموعة من الأعمال التلفزيونية مثل «في سلك الخدمة» Line of Duty و«الحارس الشخصي» Bodyguard، و«شيروود» Sherwood التي يمكن وصفها بالمتفجرة، نظراً إلى قدرة أحداثها الفائقة السرعة على الإمساك بخنّاق المشاهدين بينما تنقلهم مشدوهين من منعطف درامي إلى آخر، ومن صدمة إلى أخرى. وهي لذلك نجحت تجاريّاً وجُدّدَ لأغلبها مواسم عدة. ولعل واحداً من أسرار «الوصفة» لهذه الأعمال كان تلميحها الذكيّ لمعالم الفساد العميق في مؤسسات الدولة البريطانيّة وأجهزتها الأمنيّة، من دون أن تتورط في تقديم نقد شامل، بحكم أنّها إنتاجات يُسمح بعرضها في أوقات الذروة على التلفزيونات الرسميّة في المملكة. لكن مسلسل «ذي كابتشر» الجديد (على «بي. بي. سي. سي» في بريطانيا، و«بيكوك» في الولايات المتحدة، و«أمازون» عبر العالم) من تأليف وإخراج بين شانان، أخذ هذه الوصفة وحلّق بها إلى مستوى آخر تماماً، مقدّماً جرعة أعلى من الإثارة الحادة، مرفقة بنقد قاس متعدد الأوجه والمستويات للنظام البريطاني في عصره الأحدث بعدما صار أقرب إلى مخفر متقدّم للأميركي على تخوم أوروبا.

تتمحور ثيمة «ذي كابتشر» في موسميه 2019 و2022 (كل منهما ست حلقات) حول استكشاف دور التكنولوجيّات الحديثة في تقديم أدوات خداع بصري متطورة لخدمة الأغراض السياسيّة، وكجزء من الحرب الهجينة في إطار صراعات الهيمنة، من خلال تتبع المحققة راشيل كاري (تلعب دورها هوليداي غرينجر)، النجمة الشابة الصاعدة في شرطة لندن. راشيل لمعت سريعاً بعدما تمكنت في حل قضية رئيسية لمكافحة الإرهاب بمساعدة أدلّة مصورة استخلصت من شبكة كاميرات الدوائر التلفزيونية المغلقة الواسعة في العاصمة. لكن عندما تتم تبرئة جندي بريطاني (شون إيمري) من ارتكاب جريمة حرب ضد مدني أعزل في أفغانستان اعتماداً على ثغرة تقنيّة في التسجيلات عن الحادثة - حيث كان الصوت والفيديو غير متزامنين -، ليتّهم في يوم إطلاق سراحه بالاعتداء على محاميته (هانا روبرتس) واختطافها، فإن تحقيق راشيل يقودها إلى اكتشاف تناقضات غريبة في لقطات كاميرات الدوائر التلفزيونية المغلقة، ما أثار مخاوفها من أمن وهمي توفره دولة المراقبة العميقة على حساب حريّات وخصوصيات المواطنين. ومن المعروف أن بريطانيا تحديداً من أكثر دول العالم توظيفاً للكاميرات الذكيّة للتلصص على مواطنيها منذ بدايات أنظمة الدوائر التلفزيونية المغلقة. وتقدر أبحاث أجرتها شركة «كلاريون» للأنظمة الأمنيّة عدد الكاميرات المسلطة على شعب المملكة المتحدة بأكثر من سبعة ملايين، ما يعني أن هناك كاميرا واحدة لكل 11 شخصاً في البلاد. ومن المحتمل أنّه يتم التقاط صور متكررة حتى 70 مرة في اليوم لكل فرد من السكان عبر شبكة معقدة ترتبط بمراكز تحكم أمنيّ.
من قضية الجندي شون، تنتهي راشيل إلى متاهة تداخل استخباراتي بريطاني ودوليّ وتقاطع علاقات يبدأ (نظريّاً) من الصين ويمرّ (كما يفترض) بروسيا، ولا ينتهي بالمخابرات المركزيّة الأميركيّة، ما يجعلها غير متيقنة بمن تثق وبمن تشك. بل لم تعد متأكدة بأنّ بإمكانها تصديق عينيها أم لا بعدما اكتشفت نظام ما سمّي «التصحيح» الذي تديره وحدة استخباراتية بريطانية أميركية مشتركة. بالاستفادة من تقنيات رسم خرائط الوجه الرقمية ومعطيات كاميرات المراقبة الثابتة والمحمولة والطائرة، ينتج هذا النظام مقاطع فيديو وصوراً ذات تزوير عميق يمكن استخدامها عمليّاً لإدانة أي شخص بأي تهمة، أو اختلاق أخبار كاذبة، أو تأطير حقائق بديلة عن واقع الأحداث على الأرض.
وبالطبع، فإن هذه التقنيّات التي يضعها «ذي كابتشر» معاً تحت بقعة الضوء ليست جديدة ولا سريّة، فهي متوفرة منذ بعض الوقت لدى مطابخ الاستخبارات في الغرب، وشهدنا خلال الربيع الأميركي في بلادنا على استخدامات مكثفة لها كجزء من عدّة الحرب المعقدة الهجينة التي تآمرت الولايات المتحدة وحلفاؤها لشنها ضد كل من سوريا وليبيا (وتمتد الآن نحو إيران). وقد استخدمت وسائل التواصل الاجتماعي في الترويج لسرديات كاذبة حول الصراع، وتشويه سمعة الأنظمة الوطنيّة في مواجهتها للانقلابيين، من خلال تعميم صور ومقاطع فيديو مزورة أو مضللة أو مأخوذة في أماكن وأزمنة أخرى. لم تقتصر صناعة الكذب الموثّق تلك على حسابات الأفراد، فقد لوحظ أن وسائل الإعلام الرئيسية كانت شريكة أساسيّة في هذا التزوير، واستخدمت بيوتات كبرى مثل «بي. بي. سي»، و«سي. إن. إن»، و«دير شبيغل» وغيرها مواد بشأن سوريا وليبيا تبيّن كذبها في مناسبات عدة، واضطرت أحياناً إلى سحبها تداركاً للفضيحة.


ومع ذلك، كما يقول أحد أبطال «ذي كابتشر»، فإن بعض الجمهور على الأقل «راض عن جهله، وهو أفضل حالاً بهذه الطريقة المريحة» في ابتلاع سرديّات تبرر له مواقفه الأخلاقيّة الملتبسة.
تنتقل الحكاية في الموسم الثاني وراشيل قد قبلت الالتحاق بوحدة العمل الاستخباراتي التي تدير عمليات «التصحيح» بينما تضمر غايتها لتعرية هذه الممارسة أمام الرأي العام. لكن مديرتها الجديدة جيما غارلاند (ليا ويليامز) لم تثق بها بعد أحداث الموسم الأول، فترسلها للعمل في قسم الترسيم المكلّف بمتابعة وصيانة شبكة الكاميرات والأضواء التي تغطي لندن، إلى أن تستعاد لقلب الحدث مجدداً مع مقتل معارض صينيّ داخل شقته في لندن. يتبيّن أن القتيل كان يتعاون مع هيئة بريطانيّة كلّفت بتقييم تكنولوجيا التعرّف إلى الوجوه التي تنتجها شركة صينية ومدى ملاءمتها لأغراض الأمن القومي البريطانيّ وحماية مطارات وحدود المملكة. نفّذت عمليّة القتل باحتراف وضُللت كاميرات المراقبة بواسطة «تصحيح» لم يعرف مَن وراءه، ما جعل بقيّة أعضاء الهيئة بمن فيهم رئيسها ووزير الدولة لشؤون الأمن إسحاق تيرنر (بابا إيسيدو) أهدافاً محتملة ينبغي حمايتها. وبينما تُتهم الصين بإدارة حملة «تصحيحها» الخاصة لإرغام المملكة المتحدة على شراء برمجيّاتها، تتجه الأصابع لاحقاً نحو روسيا، قبل أن تتكشف الأمور عن تورط متعهدين من القطاع الخاص مع عناصر من المخابرات الأميركيّة، في حين يتقصد البريطانيون التغاضي عن هذه الحرب الدائرة على أراضيهم لأن فضح توفر تقنية التزوير العميق لتحويل رغبات الاستخبارات إلى أدلة ضد مستهدفين، يمكن أن يكشف توظيف المملكة المتحدة لذات التقنيّة ضد مواطنيها وشخصيات أخرى تعتبرها إرهابيّة أو معادية للديموقراطيّة. ورغم النهاية الشعريّة السعيدة للموسم الثاني، فإنها لم تكن حاسمة وفتحت الباب لإمكان استكمال الصراع في موسم ثالث.
تحفة دراميّة وسياسيّة ستغيّر الطريقة التي ننظر بها إلى كاميرات المراقبة


بغير المحتوى السياسيّ والنقد العميق لبعض أوجه النظام الأمنيّ البريطاني، والخلل البائن في العمليّة الديموقراطيّة وحكم القانون المزعومين في الغرب، فإن أداء هوليداي غرينجر كان مبهراً في تقديم شخصية المحققة الشابة الشديدة الاعتداد بالنفس التي تفقد ثقتها بنفسها وبالعالم من حولها رويداً رويداً. ومع ذلك تستمر بالمقاومة، ولا شكّ في أنّها ستحظى بأدوار مهمّة قادمة سواء في الدراما البريطانيّة أو في هوليوود. كما انتزع بابا إيسيدو إعجاب النقاد في دوره كوزير في الحكومة البريطانية، وبين مايلز كمدير لراشيل وعشيق لها، وليا ويليامز المتألقة في دور الشخصيّة الجليديّة ضمن إدارة الوحدة الموكلة بعمليّات «التصحيح». ولم يكن أداء بقيّة طاقم الممثلين بأقل منهم وتمكنوا معاً من إدامة مناخ قابل للتصديق رغم تسارع الدراما، لا سيّما وأغلبهم يمارس وظيفته، وفق المسلسل، في منطقة التقاطع الرمادية حيث تضمحل الحدود بين الواجب والخيانة، وبين الشخصي والعام، وبين الأيديولوجيا والأيديولوجيا المضادة، وبين الخير والشرّ، ما يسمح باستعراض أدقّ المشاعر.
«ذي كابتشر»، تحفة دراميّة وسياسيّة ستغيّر الطريقة التي ننظر بها معظمنا إلى كاميرات المراقبة في الشوارع والأماكن العامّة، كما دفق الصور وشرائط الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي وقنوات الإعلام الجماهيري. مشاهدة واجبة وإن متأخرة لفهم كيف تصنع أمور العالم هذه الأيّام.

* The Capture على «أمازون»