منذ نشأة كيانهم، اعتاد اللبنانيون أن يسمعوا خطاباً طائفياً وتحريضياً بشكل يوميّ، وباتوا حتى يسخرون من واقعهم هذا باعتباره جزءاً من «الباكدج» اللبناني، رغم كلّ ما تسبّب ويتسبّب به من مآس. لكنّ سماعه في الشوارع أو حتى على ألسنة بعض السياسيين شيء، وبثّه بشكل ممنهج كمادّة صحافية شيء آخر. فالدخول في مهنة الصحافة يستدعي اتّباع قواعد مهنية محدّدة واحترام قوانين الدولة والمواثيق الدولية. لسنا نتحدّث هنا عن صفحات مموّلة خارجيّاً تسرح وتمرح على مواقع التواصل الاجتماعي من دون حسيب أو رقيب، بل نتكلّم عن جريدة «عريقة» كان غسّان تويني رئيس تحريرها ذات يوم. والاعتراف بتلك «العراقة» لا يعني تأييد سياسة الجريدة بالضرورة، إذ أنّ سقطاتها السياسية كثيرة عبر العقود، لا مساحة هنا لتعدادها. لكنّ تعبير «العراقة» لا بدّ من التذكير به بعدما باتت سقطات «النهار» المتتالية أخيراً بعيدة كلّ البعد عن السياسة وأقرب إلى مخالفات فاضحة لأصول المهنة.«حزب الله يتسلّل إلى مناطق السنة عبر «وتعاونوا»... وخدماته تخترق المساجد في انتخاب المفتين». هكذا عنونت «النهار» أحد مقالاتها الأسبوع المنصرم، في مشهد أقلّ ما يُقال فيه إنّه طائفيّ مذهبيّ مناطقيّ إن افترضنا حسن النية، وتحريضيّ فتنويّ عنصريّ تقسيميّ بامتياز إن افترضنا سوءها، ولا من سبب يقف عقبة أمام الاعتقاد بالأخيرة. فالجريدة المذكورة، هي التي لم تترك حركة مقاومة لـ«إسرائيل» في العقود الماضية من شرّها، من عروبية ووطنية إلى فلسطينية وإسلامية، امتهنت منذ فترة ليست بقصيرة التحريض على المقاومة وحزبها ضمن الحملة الكونية التي يتعرّض لها الأخير، إلى جانب قنوات تلفزيونية ومواقع إلكترونية وصحف وصفحات تواصل اجتماعي من مشاركين في حملة الشيطنة. لكنّ التحريض السياسيّ قد يتحوّل إلى هوَس يطيح بشعارات جبران تويني النابذة للطائفية، وهو حال الجريدة اليوم. نعم، «النهار» تعاني من متلازمة هوَس وصلت حدّ ضغطها على صحافيّيها لانتقاد حزب الله مهما كان الموضوع بعيداً عنه، و«المش عاجبه يفلّ». هكذا مثلاً يصبح طبيعياً على الجريدة التي تتشدّق بحقوق المرأة، أن تعتمد تسليع جسد المرأة معياراً للتحرّر، فتستغلّ فرقة «ميّاس» سياسياً لتسجّل النقاط على «الخصم» وتدّعي «ارتقاء نمط العيش اللبناني» (كما عنونت)، كأنّها تفترض سلفًا ألّا داعمات للمقاومة بين «ميّاس».
بالعودة إلى المقال آنف الذكر، لا حاجة لإعادة سرد ما ورد فيه لسبب بسيط هو أنّ عنوانه يختصر كلّ شيء. فالجريدة التي تظنّ أنّ بتصاميمها الغرافيكية «ينهض لبنان»، تعتبر أنّ مساعدة جمعية مثل «وتعاونوا» لأهالي عكّار هي أسوأ ما يمكن أن يحلّ بالمحافظة التي تختزلها بـ«مناطق السنّة»، وهو تعبير رجعيّ قبليّ ينمّ عن جهل كاتبه ويشكّل «بروفا» لـ«الفيدراليين» ويهيّئ الأرضية (بنظرهم) لطرحهم اللاواقعيّ. تتجاهل «النهار» تماماً حالة محافظتَي الشمال وعكّار على مرّ العهود، متذمّرةً من مساعدات قدّمتها الجمعية لضحايا انفجار التليل العام الماضي، في وقت كانت فيه الدولة كما القيادات السياسية غائبة تماماً. كذلك، تتجاهل عدم قيام النوّاب الذين تعاقبوا على المحافظة بما يخدم المنطقة، معتبرةً فوز مرشّحي التيار الوطني الحرّ في الانتخابات الأخيرة أمّ المصائب، ومدّعيةً أنّ «حزب الله» طلب ممّن استفادوا من مساعدات «وتعاونوا» التصويت للتيار. وتتجاهل أيضاً الجمعيات الدولية التي «تنبُت» بالمئات من دون نتيجة تُذكر إنمائياً، لا بل تسوّق لها، كأنّ الجمعيات تلك تريد كلّ الخير للبنانيين فيما جمعية لبنانية تسعى لإيذائهم. وفوق كلّ ذلك، تتجاهل تدخّلات دول خليجية بالجملة لدى مفتي المناطق، لتركّز على بضعة مفتين لا يتجاوزون عدد أصابع اليد تدّعي أنّهم «على صداقة مع الحزب».
تجدر الإشارة إلى أنّ مقال «النهار» ورغم تعمّده استخدام لغة طائفية وتحديد طائفة معيّنة، إلّا أنّه لا يبدو موجّهاً لجمهور تلك الطائفة على وجه الخصوص. ففي دراسة نُشرت في «الأخبار» (16 آذار 2021) تحت عنوان «فكّ شيفرة تأطير حزب الله في الإعلام الإلكتروني»، يوضح حسام مطر أنّ التأطيرات المتعلّقة بحزب الله تختلف حسب الجمهور المستهدَف، فالمسيحيون «لديهم حساسية فائقة تجاه فكرة الدولة وبالتالي يجري تحريضهم وإثارة سخطهم من خلال إبراز حزب الله على أنه تهديد لهذه الدولة وبذلك فهو مسؤول عن الأزمة القائمة وتداعياتها وبالتالي فهو يستخدم التيار الوطني الحر في هذا السبيل»، فيما المواقع الموجّهة إلى الجمهور السنّي تركّز على تعبير «ميليشيا». بالطبع، هذه ليست القاعدة الدائمة، لكنّها تساعد في فهم عقلية مَن كتب مقال «النهار» والأهداف المرجوّة منه، والتي يبدو أنّها ليست سوى «تخويف» الجمهور المستهدَف عبر استخدام «مثال حيّ» يدقّ ناقوس الخطر وفي الوقت عينه يصعب «تكذيبه».
في ردّ على المقال، كتبت جمعية «وتعاونوا» عبر صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي إنّ الانتماء لخطّ المقاومة ومحورها وبيئتها «شرف وليس تهمة». وأضافت «خدمة أهلنا في أيّ مكان ومن أيّ طائفة كانوا، شرف وواجب وطنيّ والتزام نعتزّ به خاصّة في ظلّ التخلّي الرسميّ عن هذه المناطق المحرومة والمنكوبة، لا سيّما أنّ القيادات المفترضة لهذه المناطق غائبة تماماً عن مشاكل شعبها ولا تعرفه إلا في صناديق الاقتراع، وجمعية «وتعاونوا» تسعى لسدّ الفراغ الخدماتيّ للآخرين وستكون مسرورة بدون شكّ لو قام الآخرون بواجباتهم على هذا الصعيد». وختمت بقولها «إنّ السيناريو المرسوم في المقال غير موجود إلّا في مخيّلة بعض أصحاب الغايات المشبوهة والمفضوحة الذين اعتادوا المتاجرة بكلّ شيء على حساب الوطن وأهله».
قانونياً، يخالف مقال «النهار» المـادة 62 من قانون المطبوعات التي تنصّ على أنّه يمكن إيقاف المطبوعة لمدّة قد تصل إلى خمسة أيّام إذا نشرت «ما من شأنه أن يعرّض سلامة الدولة أو وحدتھا أو سيادتھا أو حدودھا أو ما تضمّن تحقيراً لإحدى الديانات المعترَف بھا في البلاد أو ما كان من شأنه إثارة النعرات الطائفية او العنصرية». لكنْ في بلد تُخالَف فيه أبسط القوانين بشكل يوميّ من قبل أصحاب السلطة أنفسهم، يبقى القانون حبراً على ورق، وتبقى «النهار» ورقاً بلا حبر (والتعبير ليس مجازياً فقط، إذ فعلوها حقاً).