كما كان متوقّعاً، بدأ الحقن الإعلاميّ المتواصل الذي يخدم أجندات خارجية، يؤتي أكُله بين أفراد المجتمع اللبناني عبر دفعهم نحو التقوقع والانعزال والجهل وخوف بعضهم من البعض الآخر لمجرّد أنّ أحدهم يصلّي الجمعة وآخر الأحد، تمهيداً لطروحات مثل الفدرالية لا تخدم سوى أعداء لبنان. حالما نشرت الناشطة ربى حدّاد قبل أيّام شريطاً على موقع «تويتر» تخبر فيه متابعيها عن أسباب حبّها للضاحية (أي ضاحية بيروت الجنوبية) بطريقة «عفوية» إلى حدّ ما، حتى ضجّ الموقع بمنشورها الذي جذب مؤيّدين بقدر ما جذب معترضين وساخرين. الثابت عند الطرفَين كان وجود بعض أصحاب العقول المنغلقة الطائفية والمناطقية، ولو أنّ الأعداد كانت أكبر عند المنتقدين.
في الشريط، أوضحت حدّاد أنّها تشتري ثياباً من الضاحية، وتدخّن النرجيلة في الضاحية، وتسهر وتلعب الورق وتتناول الكوكتيلات والسندويشات في الضاحية، ساخرةً ممّن يعتبرون المنطقة مربّعاً أمنياً يتمّ فيه استخدام كلّ أنواع الأسلحة من قذائف «آر بي جي» إلى طائرات «سوخوي» (على حدّ تعبيرها)، ثمّ أثنت على كون المنطقة شعبية نابضة بالحياة. لم تتفوّه حدّاد بما يثير الريبة، قبل أن تقع في فخّ قولها بأنّ المنطقة «آمنة»، وهي النقطة التي استخدمها الاستغلاليون من أجل التصويب عليها وعلى المنطقة الأحبّ إلى قلبها. عبارة «أمان» التي استخدمتها الناشطة، استفزّت البعض عن حقّ، والبعض الآخر عن حقد وخبث وجهل. مَن استفزّته العبارة حقاً كانت فئة من سكّان الضاحية الجنوبية ممّن عانوا ويعانون من انعدام الأمن وجرائم كالسرقات التي ازدادت بعد الأزمة واستقالة السلطات الأمنية من مهامّها. أمّا الجزء الآخر، فوجد في «زلّة» حدّاد فرصةً مثالية لمواصلة بخّ سمومه على المجتمع من حيث التحفيز على كره الآخر والجنوح نحو نزعات متطرّفة.
أراد الساخرون تصوير المنطقة على أنّها ساحة حرب دائمة عبر نشرهم فيديوات لأحداث حصلت سابقاً، بالإضافة إلى تصوير سكّانها على أنّهم مجموعة قبائل خارجين عن القانون لا يعرفون معنى «التحضّر»! السبب، كما يمكن استنتاجه، أنّ كلمة «الضاحية» ترتبط ــ بالنسبة إلى كثيرين ــ بـ«الشيعة» و«حزب الله»، خصوصاً لدى الجمهور المناوئ للحزب الذي يشرب ويتغذّى من مجارير إعلامية لا تهدف سوى إلى التحريض والفتنة. وهو ما استغلّه المعترضون على الفيديو إمّا عن سابق تصوّر وتصميم أو عن جهل، لتحقيق «شهرة» آنية عبر طرق ديماغوجية شعبوية تحت شعار «ما بيشبهونا».
فات أولئك الساخرين أنّ انعدام الأمن تعانيه كلّ المناطق اللبنانية بما فيها بيروت، خصوصاً منذ بدء الأزمة. فاتهم أنّ الضاحية الجنوبية هي امتداد للمناطق المجاورة، وهي في كلّ الأحوال مناطق متداخلة. فاتهم أيضاً أنّ الضاحية ليست مجرّد حيّ صغير وأنّ سكّانها من طوائف متعدّدة تضمّ إلى الشيعة، سنّة ومسيحيّين وحتى دروز يعيشون سوياً ويلتقون من دون إعارة الانتماءات أيّ اهتمام، تماماً كما فاتهم أنّ هذه هي حال كلّ منطقة لبنانية تقريباً من التي يريدون تقسيمها إلى كانتونات مذهبية. فاتهم أنّهم مهما بالغوا في التنميط، إلّا أنّ الواقع سيكذّبهم في كلّ مرّة. فاتهم أنّ هناك في الضاحية مطاعم شعبية كما أفخم المطاعم. فاتهم أنّهم أنفسهم يتغزّلون تحت شعار «الوحدة» بمدن ومناطق لبنانية ليست أفضل حالًا أمنياً من الضاحية، فيما «يُعقَصون» عندما يتعلّق الأمر بالأخيرة. والأهمّ، فاتهم أنّه إذا ذهب المرء إلى طرابلس أو بيروت أو البترون أو صور أو زحلة أو جونية أو الضاحية، سيرى الأجواء نفسها، وسيشمّ رائحة المأكولات نفسها، وسيسمع الموسيقى نفسها، وسيشعر بالمونديال نفسه، وسيرتاد المقاهي نفسها، وسيتحدّث عن المصائب والصعوبات المعيشية نفسها. فاتهم أنّ من يحمل ليرة «بتسوى ليرة، درزي بوذي أو كاثوليك».
ما تقدّم يشير إلى أنّه بات لزاماً على اللبنانيين من مختلف المناطق أن يتعرّفوا على بعضهم الآخر قبل فوات الأوان ووقوع المحظور. هذا الهدف لا يتحقّق من دون دعم الدولة للنقل العام وللسياحة الداخلية حيث يمكن لوزارة السياحة أن تقيم حملات تشجيع عليها وعلى التعرّف إلى مختلف المناطق اللبنانية، وهو أمر ضمن إمكانات الوزارة. كما يجب الاهتمام بالمناهج التربوية وإعادة الدور لـ«تلفزيون لبنان»، لأنّ ما حصل حول فيديو ربى حدّاد عيّنة صغيرة عن نتائج عدم الاكتراث لهما وترك الثقافة المجتمعية فريسة أعداء الوحدة، بما فيهم قنوات ومؤسّسات تربوية خاصّة لا يعوّل عليها. كذلك، على الجمعيات أن تستفيد من التمويل السخيّ للقيام بشيء مفيد ولو لمرّة عبر تنظيم رحلات للبنانيين بين المناطق لتعريفهم على الآخر «البعبع». وهذه دعوة من الكاتب لكلّ من لم يزر الضاحية أو طرابلس أو جبيل أو صور أو بشرّي أو غيرها، إلى زيارة المنطقة التي «يخاف» منها إذا تمكّن من ذلك، وسوف يجد ألّا شيء غريباً وأنّ لبنان «كلّه متل بعضه».