الإسبان الغدّارون الذين يخضعون لحكم سلالة ملكيّة فرضها الأميركيّون، وبسبب ما ادعوا أنّه خطأ تقني فاضح في برمجة مواعيد النشر، سبقوا رعايا تشارلز الثالث، ملك بريطانيا العظمى، في الاطلاع على جبل من التفاهات الملكيّة لسلالة وندسور، ساقها، زوج ميغان ماركل، الأمير المارق هاري، دوق ساسيكس، والابن الثاني للملك من الراحلة ديانا سبنسر، ضمن مذكرات انتقاميّة نشرها مع بداية هذا العام تحت عنوان «الاحتياطي» (دار بنغوين) بعدما تسرّبت نسخ من الطبعة الإسبانية للجمهور. وقد أتاح ذلك للأوروبيين أسبوعاً كاملاً للسخريّة من حكّام الجزيرة الواقعة بين فرنسا وإيرلندا التي عاندتهم واختارت مغادرة عضوية النادي الأوروبيّ، قبل أن يتسنى للبريطانيين أنفسهم قراءة المذكرات بطبعتها الإنكليزيّة، وقبل أن تنطلق جوقة الإعلام البريطانيّ المتواطئ في انتقاد من ينتقد السلالة الحاكمة - وإن كان ابن السّلالة ذاتها - من عتاة اليمين المتطرّف إلى الماركسويين المثقوبين، وكل دعيّ بينهما من مذيعي النّظام الأذلاء. العنوان الذكيّ للمذكرات «الاحتياطي»، يشير إلى الدور السلاليّ الموكل لهاري في إطار التخطيط لمستقبل الإمبراطوريّة المتقاعدة. إذ تنصّ القواعد البكورية على تسليم التاج إلى الأبناء الأكبر سناً. لكن هذا أثبت أنّه أمر محفوف بالمخاطر، تاريخيّاً على الأقل، عندما كانت الأمراض أكثر فتكاً وشيوعاً بين الرضّع والأطفال، والحوادث القاتلة الغامضة أكثر تكراراً، بالإضافة إلى الإمكانيّة الحقيقيّة لعدم إنجاب ذكور في بعض الأحيان. بالتالي، فإن الملوك والملكات سعوا دائماً إلى إنجاب ولدين على الأقل: وريث مباشر، واحتياطيّ بديل موقت، لحين أن ينجب الوريث ابناً. وبحسب المذكرات، فإن لقب الاحتياطي كان متداولاً في أوساط السلالة عند المناداة على هاري، واستخدمته الملكة إليزابيث الراحلة وزوجها الأمير فيليب. ويروي الأمير اللاجئ اختيارياً إلى كاليفورنيا أنه سمع قصة عائلية حول ما قاله والده – الملك الحاليّ - لزوجته، الأميرة ديانا، في يوم ولادته: «رائع! الآن أعطيتني وريثاً واحتياطياً. لقد انتهى عملي هنا»، قبل أن يهرب بعد دقائق ليكون في أحضان عشيقته كاميلا.
المذكرات التي صاغها أدبيّاً للأمير - بناء على توصية من الممثل الأميركي جورج كلوني - جي آر موهرنجر الكاتب الشبح المعروف (كما يطلق عليه في الثقافة الغربيّة) متخمة بقصص وحوادث تتنافس في ما بينها على إظهار كمّ التفاهة التي تحكم حياة أولئك المرفّهين الخاملين، ومدى فساد عقولهم، ونظرتهم المسطّحة إلى العالم الذي يحكمون. إليكم بعض الأمثلة: ويليام، الأمير الوريث، جاء يوماً إلى القصر الذي يقيم فيه هاري وتجادل معه بشأن زوجته ميغان فوصفها بـ«الوقحة» و«المزعجة»، قبل أن يتبادلا الشتائم، فيمسك وليام بخناق هاري غاضباً، لتنقطع قلادته، ويقع على الأرض، ويتحطّم صحن طعام الكلب تحته. ويخبرنا هاري عن تفاصيل مملّة تتعلق بنوع كريم ترطيب وضعه على عضوه الذكريّ الذي أصيب بقصعة الصقيع عشيّة ليلة زفاف شقيقه ويليام، بناء على نصيحة صديق. وهو يؤكد لرعاياه بأنّه مختون. ويروي أيضاً كيف فقد عذريته للمرة الأولى في سنّ السابعة عشرة مع امرأة أكبر منه بعقود خلف حانة مزدحمة تعاملت معه كفحل صغير، قبل أن تبعده بضربة على مؤخرته. وقال أيضاً إنّه بدأ بتعاطي الماريجوانا والكوكايين في ذلك العمر تقريباً. وبشأن فضيحة ظهوره بزي نازيّ، يدّعي هاري أنّه كان محتاراً إزاء حضور احتفال تنكريّ ثيمته «المستعمِرون والمستعمَرون» بين أزياء طيّار بريطانيّ أو ضابط نازيّ. لكن شقيقه ويليام وصديقته كيت (صارت زوجة الوريث وملكة بريطانيا المقبلة) نصحاه بالزيّ النازيّ، وهكذا كان، لتتسرب صورته إلى الصحافة ويجد نفسه على غلاف اليومية الشعبيّة الأكثر توزيعاً في بريطانيا (ذا صن). ومن الواضح أنّ هنالك وداً مفقوداً بين الشقيقين ويليام وهاري، وكاميلا عشيقة أبيهما الملك التي كان يخون أمهما معها قبل أن يتزوجها لاحقاً. إذ يقول هاري إنّه توسّل وأخوه إلى الملك كي لا يتخذها زوجة رسميّة بدون طائل، وأنّها في وقت ما اقترحت على الملك منح هاري وظيفة صغيرة في مستعمرة برمودا (إحدى الجزر الخاضعة لحكم السلالة البريطانيّة الحاكمة حيث يخبئ أثرياء العالم أموالهم). وعلى الرّغم من أنّ أغلب البريطانيين لم يكونوا قد سمعوا بالممثلة الأميركيّة ميغان ماركل قبل الإعلان عن مواعدتها هاري، إلا أنّ مسلسل «سوتس» الأميركي (Suits) الذي مثّلت فيه، كان موضوع متابعة من قبل أفراد السلالة. ولذلك فهم عرفوها قبل أن يلتقوها. على أن علاقة ميغان بكيت تحديداً اتسمت غالباً بالتوتر الشديد عند تعاملهما معاً، ومن الجليّ أن أسلوب ميغان المتحرر من البروتوكول تسبّب في الإزعاج لكيت وويليام في عدّة مرّات بما فيها مرّة مازحتها قائلة إنّ لها، أي كيت، «دماغ طفل صغير». ويتهم هاري والده الملك بأنّه غير موفق في إظهار مشاعره، وأنّه لم يكلّف نفسه عناء معانقته عندما قتلت والدته الأميرة ديانا في حادث سير في باريس. ويقول إنّه ما زال – أي الملك – وهو في السبعينيّات من العمر يحتفظ إلى اليوم بالدبّ الدّمية خاصته. وكشف أنّ جلالته يمارس تمارين رياضيّة لألم الظهر والرقبة مرتدياً «البوكسر» الملكيّ، واتهمه بالغيرة من حجم التغطية الصحافيّة التي يحصل عليها ابنه البكر ويليام وزوجته كيت مقارنة بما يحصل عليه الملك وكاميلا. تظهر المذكرات بوضوح أن مسألة كون هاري احتياطياً لأخيه الملك المستقبليّ، تسببت له في عقدة، إذ دائماً ما أحس بأنّه مجرّد مستودع قطع غيار لوريث العرش: ربما إحدى الكلى، أو عند الحاجة لنقل الدّم، أو لزرع نخاع العظم وهكذا، وأن ذلك الأمر كان واضحاً له من قبل السلالة وتم تعزيزه والتأكيد عليه دائماً. ويروي أنه اضطر إلى طلب الإذن من الملكة إليزابيث للاحتفاظ بلحيته أثناء زفافه، لأنه كان يتزوج في زيه العسكري وإطلاق اللحى ممنوع في الجيش البريطاني، بينما لم تكن ميغان قد رأته من قبل بلا لحية. وقد أعطته «الجدة» موافقتها، على عكس ما حدث مع أخيه ويليام الذي لم تأذن له الملكة الراحلة بذلك طوال أسبوع، ما اضطره لحلاقة ذقنه قبل الزفاف. على أن أسوأ سخافات الكتاب التي أثارت غضب كثيرين كانت اعتراف الأمير هاري بقتله 25 من الأفغان أثناء خدمته مع الجيش البريطاني عام 2012 في أفغانستان. كتب أنه «في عصر الأباتشي وأجهزة الكمبيوتر المحمولة، كان ممكناً تحديد عدد المقاتلين الأعداء الذين قتلتهم. بدقّة، وبدا لي أنه من الضروري ألا أخاف من هذا الرقم. إذن رقمي هو 25. إنه ليس رقماً يشعرني بالرضا، لكنه في الوقت عينه لا يحرجني أبداً». ولا يكتفي هاري بذلك، بل يجرّد قتلاه من إنسانيّتهم، فيقول: «كنت غارقاً في أجواء احتدام القتال، لم أفكر في هؤلاء الـ 25 كبشر»، «لقد كانوا بالنسبة إلي كقطع شطرنج تمت إزالتها من الرقعة. لقد كنا نقضي على الأشرار قبل أن يتمكنوا من قتل الطيبين». وقد تسببت هذه المقاطع بانتقاد عسكريين بريطانيين كبار للأمير قالوا بأن كسر عقيدة الصمت، وإزالة الستار بين المدنيّ والعسكريّ أمر لا يخدم مصلحة المملكة، وقد يتسبّب في مخاطر أمنيّة للسلالة الحاكمة أو للأمير نفسه.
يمثّل هاري لحظة فارقة في صناعة التاريخ الثقافي للملكية البريطانية. بعد الحرب، أحدثت المؤسسة الملكية تغييراً نوعيّاً في طريقة إدارة علاماتها التجارية، فبدل التركيز بالكامل على شخص الملكة وحدها، استدعي أفراد السلالة للعب أدوار عامّة، وتمّ تعيين الأمراء والأميرات كسفراء تجاريين ورعاة للجمعيات الخيرية وما إلى ذلك، ليصبحوا نجوماً ومشاهير. لكن هذه السياسة أتت بنتائج متناقضة، إذ ساعدت حفلات الزفاف الأسطوريّة مثلاً على تعميق الروابط مع الرعايا المتابعين السذّج والليبراليين الحمقى. لكن ثمة أحداث مثل انهيار زيجات أندرو إلى سارة فيرغسون، وتشارلز إلى ديانا سبنسر سلّطت الضوء على ثقافة «المؤسسة» القاسية، كما أنتجت حادثة مقتل الأميرة ديانا موجة من الشعور العام بمقت القصر وسكانه لم تتبدد كليّة إلى اليوم.
يمثّل هاري لحظة فارقة في صناعة التاريخ الثقافي للملكية البريطانية


نحن ندرك بالطبع بأن هاري، إلى جانب وصمه بالاحتياطي، ولد في ظلّ أسوأ الكوارث التي واجهتها السلالة العائلة المالكة خلال القرن الماضي. إذ تربّى (وأخوه ويليام) في رعاية أمّ غاضبة مجروحة قررت الانتقام من خيانة زوجها بالخيانة، وتعرضت لمعاملة باردة من قبل الملكة ومجمل العائلة الحاكمة، كما للسخرية والمطاردة من قبل الصحافة اليمينية. وهو درس تالياً في «إيتون» المدرسة الأشبه بفقاعة أكبر قليلاً من فقاعة القصر الملكيّ، والمتخصصة في تخريج أولاد تحالف الفساد بين البرجوازيّة والأرستقراطيّة التي تهيمن على بريطانيا منذ قرون. أنتجت هذه المدرسة الشخصيات المنحرفة التي تولت المناصب الأهم في الدّولة البريطانيّة رؤساء وزراء ووزراء ومديرين عامين ومديري بنوك وشركات استثمار، قبل أن ينتقل إلى الكليّة العسكريّة النخبويّة في ساندهيرست، فالجيش حيث بقي دوماً تحت الحماية (والرّقابة) اللصيقة. ويبدو أنّ جزءاً كبيراً من الحب الظاهر الذي يكنّه هاري لميغان هو أن ممثلة هوليوود السمراء فتحت له بوابة الفرار من هذا الهيكل النفسيّ والاجتماعي الضاغط إلى مناخ الحريّة الليبراليّة في كاليفورنيا، مع الاستمرار بالانتفاع من عوائد الشهرة الغبيّة بحكم الدم الأزرق الذي يجري في عروقه. إنّه بشكل ما انتصار هوليوود الأميركيّة على ساندهيرست البريطانيّة في عقر دار السلالة الملكيّة.
لقد نجا هاري بنفسه، وكتب مذكراته للتطهّر من التجربة، وربّما لتسديد حسابات عالقة مع أفراد سلالته، وبالمرّة لدرّ بعض الدخل المجزي من عوائد الكتاب. لكنّه سيجد حتماً مع الوقت أنّه انتقل من سجنه الملكيّ الصغير المرفّه حيث ممثلون فاشلون إلى قرية مزيفة ساحرة يقطنها ممثلون محترفون يتقنون فنون العيش في قاعة المرايا الهائلة التي تسمى الولايات المتحدة.
تصفية الحسابات عبر «الاحتياطي»، وإن كشفت تفاهة أفراد السلالة الملكيّة البريطانيّة، فهي لن تسقط دولتهم بالضربة القاضية، لكن هاري، وميغانه، أثخناها بالنقاط. والشعب البريطانيّ، كما كل الشعوب الأخرى الخاضعة لحكم السلالات، مدينة بشكل ما لـ «ذي برينس أوف كاليفورنيا»، لتدبيج مذكراته، إذ لا مرافعة في تهافت حق السّلالات بالحكم أبلغ منها.