لن يكون غريباً أن تسكن مدينة سورية ساحلية في قلبك، وتوسّع مطرحها عالياً في وجدانك، ويظلّ لاسمها مكانة صريحة في ذاكرتك، بذريعة فريق ناديها بكرة القدم! في ثمانينات القرن الماضي، بينما كانت البلاد مفطومة على لون واحد هو الخاكي العسكري، كانت جبلة بمثابة بهجة يوم الجمعة الذي تقام فيه مباريات الدوري المحلي. وكان مالك شكوحي ومناف رمضان وآخرين هم نجوم تلك الأيّام... الأول هو حارس المرمى البهلواني الذي احترف إضاعة الوقت، وأجاد الفنيّات العالية والسخرية المحببة من الخصم، و التصدّيات التي تفوق العقل! والثاني مهاجم كان يتقن المناورات الفردية بماهرة، ويسرّح شعره الطويل على الطريقة العصرية لمغني الروك آنذاك ونجوم الشاشة وقد نقله هدف «الدبل كيك» الذي سجّله في نادي الضفتين الأردني إلى الذاكرة المتعاقبة!طبعاً لا يمكن أن تعرّف جبلة بغير بحرها وجبالها وبدوي الجبل وأدونيس.. لكن في كلّ الكوكب يحظى لاعبو كرة القدم بشعبية استثنائية، على كلّ حال المدينة الوادعة دفعت بذريعة خصوبتها وطبيعتها الموغلة في السحر بعدد كبير من الأدباء والفنانين إلى الساحة العربية! كلّ ذلك التمهيد لنقول بأن المدينة القابعة على الساحل السوري جبلت قبل أيّام رمال شواطئها بدم شهداء الزلزال الذين ماتوا برمشة عين! سنصل إلى جبلة في نفس الوقت الذي ارتفعت فيه صيحات المسعفين معلنة عن وجود أحياء تحت بناء مبنى الريحاوي وسط البلد، بعد مرور خمسة أيّام على الكارثة. القوات الأمنية تمنع وجود من ليس له عمل، كي لا يعيق حركة فرق الإنقاذ، فيما تختلط أضواء سيّارات الإسعاف مع غبار الكارثة العالقة على جدران الأبنية المجاورة. العيون الذاهلة تترصد أي شيء، فيما الشرفات المطلّة على الخراب ما زالت واقفة تشهد على الهول، وقد اعتصم سكّانها بمبانيهم رغم أنها ليست بعيدة عن الخطر. سيخرج هؤلاء يراقبون عمليات الانقاذ، وينتظرون جيرانهم الذين كانوا للتو بمحاذاتهم، وفجأة ناموا تحت الركام! تخيّل أن تسمع ليلاً أنين معارفك وجيرانك أو عائلتك، وهم يستغيثون وأنت عاجز ومقيّد ومكللّ بالهزيمة! لكن فجأة تفتح السماء بابها وتستجيب نسبياً هناك أحياء! تتكاتف فرق الإنقاذ لتخرج إبراهيم زكريّا على قيد الحياة، الشاب العشريني الذي قوبلت لحظات عودته الأولى بالتصفيق والأهازيج ودموع الفرح، سيدهشه الضوء، كأنه يراه لأوّل مرة. يلتفت في كل الاتجاهات والتراب يغطيه. كأنه يسأل نفسه: أين أنا وماذا يفعل هؤلاء، قبل أن يعرف بأنه ما زال على يتنفّس، فيبتسم! ويسلّم نفسه بسلام كي تنقله سيارات الإسعاف، وتشير التقارير الطبية بأنه في حالة جيدة باستثناء كسور متقدمة وقد أجريت له العمليات الجراحية اللازمة. خلال دقائق لاحقة ستنتشل الفرق سيدة متألمة تصرخ لتستغيث فتلّوي القلوب، إنها ضحى نور لله والدة إبراهيم وقد ظلّت برفقته خمسة أيّام على قيد الحياة تحت الأنقاض! لكن للأسف لم يكتب لرواية زكريّا ابنتها أن تعيش كما حصل مع أغلب سّكّان البناء المكلوم. حتى الفجيعة بأعتى سطوتها تترك فرصة نجاة أمام السوري الذي لم يبق نوع موت وإلا وجرّبه. سيخبرنا مجموعة من شباب جبلة المتطوّعين الذين يصلون الليل بالنهار وينجزون شغلاً جباراً بأن هناك ناجية من هذا المبنى مات كلّ أهلها وبقيت وحيدة، اسمها جنى مروان حلبي. نقصد بيت خالها فتخرج صبية يافعة وكأنها بحضورها المكسور أرادت أن تعيد تدوير المثل الشعبي الذي يقول: «مثل نقطة في مصحف» مات أبيها وأمها وأخوتها. تروي لنا بثبات مشوب بالحزن العميق، والموشّح الخجل البليغ ومعالم الصدمة تكللها، كيف نامت قبل الكارثة بنصف ساعة، وحين اهتزت الأرض كيف طلبت أختها منها ألا تخاف وأن تقترب منها عند اشتداد الزلزال، لكنها خافت وغطّت رأسها فقالت لها شقيقتها: «لا تخافي وتذكري أنني أحبّك كثيراً» ثم تفرقتا لتجد جنى نفسها في حديقة البناء بعد أن انفصلت لحسن حظّها غرفتها عن البيت، وسقطت أوّلاً، لكّن سقفها فصل بينها وبين شقيقتها التي فارقت الحياة على الفور، ثم انهار البناء بكامله، وبينما كانت صرخات الاستنجاد تتسيّد المشهد، لاذت جنى بأوّل ضوء واجهته ونجت وحيدة دون أي سند في هذا العالم القاتم. ما إن ننتهي من حديثنا معها حتى يتبرّع أحد المتطوعين القادم من دمشق بأن يرعى جنى طيلة حياتها مثلها مثل أولاده!
وبالعودة إلى ركام البناء وأثناء عمليات الإنقاذ، سيشير أحد الواقفين إلى رداء بقي منه أشلاء ويقول: «هذا لوالدي كان يرتديه في العمل». نسأله من يكون فيقول أنه عماد المكن مهندس اتصالات يقيم في مصر تلقى اتصالاً بحلول ساعة الغفلة، فنزل ليجد بأن بناء أهله انهار وفقد كلّ عائلته والده وأمه وأشقائه. ويضيف: «لن آخذ أي قطعة اللباس أو بقايا ركام من هنا، لأنني لا أريد أن احتفظ إلا بالذكريات الجميلة».
ونحن في زحمة الملمات تلك والتي تسحل الخاطر، ستطالعنا جنازة مهيبة نتخيّل أنه كتب عليها بخط عريض: «عشت بصمت بعيداً عن الصخب، واخترت الموت في زمن الهول، لأوّفر على العيون دموعها» إنها جنازة القاص والشاعر السوري ناظم مهنّا ابن مدينة جبلة الذي انسحب في زمن الزلزال، لينسجم موته الهادئ في مع حياته الوادعة!