إنّها العصفورية فعلاً. لا يمكن وصف المشهد الإعلامي اللبناني في الأيام الماضية إلا بالهستيريا وبإعلان صريح للحرب الطبقية. بلغت وقاحة بعض القنوات اللبنانية مستوى غير مسبوق في دفاعها عن المصارف. مشهد أكثر من سوريالي في بلد يرزح منذ ثلاث سنوات تحت إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية المالية النقدية الاجتماعية التي تتحمّل المصارف جزءاً كبيراً من مسؤوليتها. وآخر معالم تلك المسؤولية كان الإفادة من تعديل سعر الصرف الرسمي بداية الشهر، فتضاعفت مديونية الدولة بـ«شحطة قلم» من قائد الأوركسترا أي مصرف لبنان، قبل أن تقرّر المصارف الإضراب بوجه المودعين والاقتصاد، إلى أجل غير مسمّى.تحت تبريرات مثل «الثقة الدولية بلبنان» و«توقّف المصارف المراسلة عن التعامل مع المصارف اللبنانية» و«تمويل الاستيراد» و«الإفلاس وتبخّر أموال المودعين» وغيرها من العناوين المشابهة لأكاذيب «السرّية المصرفية» و«التجارة الحرّة» التي افتضح زيفها بعد الأزمة، استنفر «حزب المصارف» بمصرفيّيه ورجال أعماله وسياسيّيه وإعلامه ورجال دينه، إلى درجة لم يعد يكترث بإخفاء وجهه الحقيقي. فوق كلّ ذلك، استخدموا شمّاعة «التيار الوطني الحرّ» و«العهد العوني» للتغطية على موبقاتهم، وليس آخرَها قرارا رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ووزير داخليته القاضي بسام مولوي التدخّل في عمل القضاء. أمّا وسائل الإعلام التي هلّلت لهذا التدخّل التعسّفي، فهي نفسها التي تتحف اللبنانيين منذ انفجار 4 آب 2020 بعدم التدخّل في عمل القضاء!
بدأت الهستيريا مساء الإثنين الماضي. مقدّمتَان «ناريّتَان» من توقيع mtv و«المؤسسة اللبنانية للإرسال إنترناشونال»، دافعتا فيهما عن المصارف وهاجمتا المدّعية العامّة في جبل لبنان القاضية غادة عون. لم تعِر القناتان أيّ اهتمام للهزّتَين اللتَين وقعتا قبلها بقليل، بخلاف باقي القنوات بما فيها «الجديد» التي لم تشِر إلى القاضية عون. ولئن لم يكن مفاجئاً اصطفاف mtv خلف المصارف علناً، إلّا أنّ مقدّمة LBCI كانت صادمة، إلى درجة قوبلت بحملة على مواقع التواصل هاجمتها دون شقيقتها. في السياق، هناك مَن ربط مقدّمة LBCI بطرح اسم رئيس مجلس إدارتها بيار الضاهر كمرشّح رئاسي، وهناك مَن اعتبر أنّ القناة تستبق أيّ إجراء قد يطاولها. لكن بين هذا وذاك، الثابت أنّ القناة ارتضت بأن تكون أداة إعلامية للمصارف ومتحدّثة باسم جمعية المصارف. هكذا، أفردت إحدى أطول المقدّمات الإخبارية في تاريخها لتناول موضوعٍ واحد. لم تحرّكها الأزمات المعيشية والاجتماعية مثلما حرّكها الحنين إلى المصارف. هاجمت القاضية عون متّهمةً إيّاها بأنّ لديها «أحقاداً»، ولم تنسَ في طريقها «دسّ» اسم «القرض الحسن»، الـ«ترند» الأحدث. بنبرة غاضبة، تلت رنيم أبو خزام بيان محطّتها: «في قضية تفجير المرفأ، غيّرتم المحقّق العدلي الأوّل وكدتم أن تغيّروا المحقق العدلي الثاني، لكن مَن يجرؤ على الحديث عن وجوب سحب الملفّات من يد القاضية عون إذا كان صعباً تبديلها؟». كأنّ القناة تدعو إلى تبرير الخطأ بالخطأ، و«تغفر» لمعاييرها المزدوجة عندما يتعلّق الأمر بالقضاء. العبارة الأخطر كانت تلك التي أنهت بها المقدّمة: «إذا طارت المصارف، طارت الودائع». بمعنى أوضح، تهوّل القناة على الناس لإخافتهم؛ فيما الحقيقة أنّ الودائع «طارت»، وأموال المودعين ذهبت إلى جيوب أصحاب المصارف، و«تطيير» المصارف يعني التعويض على المودعين من أصولها والأرباح غير الشرعية التي جنتها على مدى عقود. ولعلّ آيسلندا أفضل مثال على ما سبق، فإبّان أزمتها تركت أكبر ثلاثة مصارف تنهار، محقّقة أسرع تعافٍ اقتصادي في التاريخ.
أمّا mtv فاعتبرت أنّه «جاء اليوم دور مصرف «سوييتيه جنرال»» المملوك من أنطون الصحناوي الذي تربطه علاقة وطيدة برئيس مجلس إدارة القناة ميشال المرّ. وسألت عمّا إذا كانت إجراءات القاضية عون تأتي «في إطار الكيدية السياسية التي تمارسها والاستنسابية التي اشتهرت بها طيلة ممارستها القضائية خلال العهد العوني»، ولم تنسَ مهاجمة الرئيس السابق ميشال عون، فقالت إنّ «غادة عون تشبه ملهمها وداعمها وحاميها الرئيس ميشال عون. فالأخير، وتحت شعار التحرير، قصف عشوائيّاً وخرّب ودمّر وقتل، وفي نهاية مسيرته العسكرية المظفرة في عام 1990، سلّم المنطقة المحرّرة من لبنان للجيش السوري»، ضاربةً عرض الحائط بالأصول المهنية، فنبشت القبور ورمت اتّهامات عشوائية قد تتسبّب في توتّرات في الشارع، من دون أدنى حسّ بالمسؤولية الأخلاقية والمهنية.
سكوت «الجديد» مساء الإثنين، استعاضت عنه بمقدّمة «فاترة» الثلاثاء. فالقناة التي قضت معظم ولاية الرئيس عون وهي تهاجمه، أخذت مساراً وسطيّاً إلى حدّ ما، ولو أنّها تقصّدت إظهار معارضتها للقاضية غادة عون، لكنّها أيضاً اعتمدت لغة حادّة ضدّ المصارف وحتى ميقاتي. ورد في مقدّمة الثلاثاء: «لم تعُد المسألة تتصل بحقوق المودعين وأموال الناس، لذلك أصبح لازماً الفصل في هذا النزاع وأخذه إلى منطقة محايدة عبر تعيين قاضٍ لا يمتلك نزعة الانتقام وحب الملاحقات المصوّرة». أمّا في نشرة أخبار الخميس، فعارضت تدخّل ميقاتي ومولوي في عمل القضاء، واستضافت في هذا السياق مدّعي عام التمييز السابق القاضي حاتم ماضي الذي يطلّ بشكل دوري على القناة، فشرح من منظار قانوني كيف أنّه بغضّ النظر عن أيّ أخطاء قد تكون ارتكبتها عون، لا يحقّ للسلطة الإجرائية التدخّل لدى الجسم القضائي، ضمن مبدأ فصل السلطات. لكنّها حرصت على «دوزنة» الموقف عبر كيل الاتّهامات للقاضية عون ضمن فقرة «المشهد الاقتصادي والمالي».
بالعودة إلى mtv وlbci، اقترفت المحطّتان خطأً مهنيّاً آخر مساء الأربعاء، حين عمدتا خلال نشرتَيهما إلى نقل بيان رئيس جمعية المصارف ورئيس مجلس إدارة «بنك بيروت» سليم صفير الذي نفى فيه ما ورد في صفحات «الأخبار» في اليوم نفسه عن تلقّي مصرفه مبلغ 400 مليون دولار من مصرف لبنان، من دون أن تشير المحطّتان حتى إلى مضمون المقال! هكذا، قرّرتا التخلّص من مبدأ الرأي والرأي الآخر الذي تتّبعه حتى وسائل إعلام مملوكة لأنظمة دول. علماً أنّ في تقرير الزميلة رلى إبراهيم، ورد ما حرفيّته: «هذه العملية شكلّت أحد فصول التحقيق الذي أنجزه القاضي جان طنوس حول تجاوزات سلامة والذي يستند إليه القضاة الأوروبيون، ولا سيّما في ألمانيا وفرنسا، لبناء ملفّاتهم».
القبّعة المرفوعة في التطبيل للمصارف كانت من نصيب مارسيل غانم. لم يعطِ مقدّم «صار الوقت» أهمّية لادّعاء النائب العام الاستئنافي في بيروت القاضي رجا حاموش على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ومعاونيه الذي حصل في اليوم نفسه. فالأولوية كانت للعظة الهجومية على القاضية غادة عون و«التيار الوطني الحر». قرّر غانم كسر الرقم القياسي الذي بلغته LBCI مساء الإثنين، فبخّ سمومه على هواء mtv المباشر لمدّة استمرّت أكثر من ستّ دقائق. «يا عدليّتاه»، قال غانم، محيّياً جماهيره الغفيرة. كرّر العبارة مراراً في عظته وهلّل لفعلة ميقاتي ومولوي. اتّهم «التيار الوطني الحر» بتدمير الدولة «منذ التسعينيات»، أي قبل دخوله الحياة السياسية بسنوات! اتّهم «الفريق الذي تمثّله القاضية عون» بأنّه السبب وراء تهجير المسيحيين، متناسياً أنّ العدد الأكبر من المسيحيين هاجر بعد عدم القدرة على سحب الودائع من المصارف نفسها التي انكبّ للدفاع عن «كرامتها»! محاطاً بفريق من الدفاع المدني ممّن خسروا ودائعهم في المصارف كمؤسّسة وكأفراد، تشدّق غانم بدور المصارف في تحريك الاقتصاد، وهو في النهاية لا يعدو كونه اقتصاداً ريعيّاً وهميّاً تستفيد منه قلّة محظية يُعتبر غانم نفسه جزءاً منها. توسّط جمهوراً يمثّل «موزاييك» أحزاب من قلب «حزب المصارف»: لا وجود لجمهور «التيار الوطني الحر» و«حزب الله» هنا، ولا حتى لمناصري «مواطنون ومواطنات في دولة»، أي أنّ كل مَن ينتقد المصارف مكانه خارج الاستديو. الفكرة المفترضة التي أوجد برنامج «صار الوقت» من أجلها وهي «الحوار» وجمع مختلف الآراء انتفت، إذ سيطر رأي واحد على البرنامج كلّه، وأكّد مقدّمه جهاراً أنّه طرف في الصراعَين السياسي والطبقي، وتبنّى لغة ديماغوجية تشفي غليل عتاة الانعزالية والفاشية.
على أيّ حال، ما حصل مع القاضية عون أعاد إلى الأذهان الحملة على المدّعي العام المالي علي إبراهيم إبّان وضعه إشارة منع تصرّف على أصول 21 مصرفاً عام 2020، وفي حينه كان الانهيار في بداياته، فكيف اليوم بعدما أجهز «حزب المصارف» على كلّ مؤسّسات الدولة ويمهّد لخصخصتها، ولا يزال يفكّر بكيفية تحقيق الأرباح ولو على حساب آخر فرد من المجتمع. ومن المتوقّع أن يشتدّ خناق الحملات الإعلامية كلّما اشتدّ الخناق القضائي على المصارف ورياض سلامة ومن لفّ لفّهما. صحيح أنّ ما يحصل اليوم مهزلة، لكنّ المهزلة الأكبر انعدام الاعتراضات الشعبية، حتى في العالم الافتراضي!