غزّة | هي بمثابة نقطة تحوّل ليس عسكرياً فحسب، بل على صعيد المواجهة الإعلامية أيضاً. تمكّنت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزّة من كسر الصور النمطية والقوالب الجاهزة في طبيعة تعاطي الإعلام الفلسطيني مع العدوان. بعد سنوات طويلة على استعطافه للرأي العام الغربي، أحدث إعلام المقاومة قفزة نوعيّة في التحرّر من الصورة الهزيلة التي لطالما وضع غزة فيها باعتبارها طرفاً ضعيفاً. استطاعت المقاومة إضفاء الصدقيّة على إعلامها حتى تحوّلت إلى مرجعية قوية عند الشارع الإسرائيلي، بعدما ضيّقت رقابة العدو العسكرية الخناق على الإعلام الصهيوني، ما أدّى إلى استعار الحرب الإعلامية بين الجانبين.أدت الحروب السابقة على غزّة دوراً محورياً في تطوّر محتوى الإعلام الحربي كمّاً ونوعاً. بعدما كان المكتب الإعلامي لـ«كتائب القسّام» (حماس) و«سرايا القدس» (الجهاد الإسلامي) في طور نشأته يحصر مهماته في تصوير وصايا الاستشهاديين ونشرها عبر الإنترنت، بات اليوم قادراً على مخاطبة الإسرائيليين بلغتهم.

يرتكز إعلام المقاومة بذلك إلى استراتيجيات عدّة، أهمّها المبادرة والتخويف والنأي عن البكائيات. مثلت الأغنيات وخطابات القادة العسكريين وأشرطة الفيديو المصوّرة لعمليات المقاومة نواة تلك الاستراتيجيات، وفقاً لمعايير مدروسة وتقنيات مكتسبة من الفريق الإعلامي لـ «حزب الله» اللبناني. فريق درّب طاقم المنظومة الإعلاميّة التابع لـ«القسام» و«سرايا القدس» بعد حرب «الرصاص المصبوب» عام 2008 وفق ما قالت مصادر من المكتب الإعلامي لـ«القسام» في حديثها مع «الأخبار».
هكذا، لم تكن هيكلة إعلام المقاومة خلال هذه الحرب عشوائيّة، بل كان عملها منظّماً ومقسّماً إلى وحدات مستقلة ومتشابكة، أهمّها وحدة متخصّصة في رصد الإعلام العبري، واختراق بثّ الإذاعات والقنوات الصهيونية لتمرير رسائل نفسية تزعزع استقرار الشارع الإسرائيلي وتُضعضع عقيدة الجنود القتالية على شاكلة: «القصف سيطاول كل مكان»، و«قادتكم حكموا عليكم بالموت»، و«أخلوا بئر السبع»، و«لن تطيروا في سمائنا». كذلك، نجح إعلام المقاومة في اختراق حسابات إلكترونية لشخصيات إسرائيلية مهمّة، كصفحة الناطق باسم جيش الاحتلال للإعلام العربي أفيخاي أدرعي. في المقابل، حاول الإعلامي الصهيوني المخضرم إيهود يعاري إجراء حوار مباشر مع إسلام بدر أحد مذيعي فضائية «الأقصى»، غير أنّ الأخير رفض أداء دور استعراضي في إجراء محاورة نارية مع يعاري. أما اللمسات الإعلامية الأكثر جذباً ومجاراةً للحرب النفسيّة على العدو خلال هذه الحرب، فتتمحور حول نقاط ثلاث هي: قوّة اللغة العسكرية في خطابات المقاومة، والتصوير الحرفي لعملية التسلل خلف خطوط العدوّ، إضافةً إلى إنتاج نسخة عبرية من أنشودة «زلزل أمن إسرائيل»، ومحاكاة النشيد الإسرائيلي بأنشودة «نهاية الأمل». ووفق المصادر نفسها، زُوِّد المقاومون بكاميرات عصرية مثبّتة على رؤوسهم وأكتافهم لتتناسب والعمل الميداني داخل نطاق المعركة، إضافةً إلى نصب كاميرات مراقبة على الحدود بالتعاون مع وحدة الرصد التابعة للمقاومة. وبذلك، نجحت المقاومة في توثيق عملية الإنزال عند موقع نحال عوز (شرق الشجاعية) والاشتباك المباشر مع جنود الاحتلال من «المسافة الصفر»، داحضةً ادعاءات العدوّ بفشل العملية. لم تكتفِ المقاومة بهذا الحدّ، بل أخضعت مقطع الفيديو المصوّر من قلب المعركة لمونتاج وفلترة دقيقَيْن لتغليفه بطابع من السرية والحسّ الأمني لقطع الطريق أمام محاولات الصهاينة لتشريحه للوصول إلى عناوين المقاومين.
وثّق الإعلام المقاوم أيضاً عمليات القنص وإطلاق الصواريخ على فلسطين المحتلّة، وتفجير ناقلات الجند، إضافةً إلى تصوير قطع السلاح التي يغنمها المقاومون من الاشتباكات. في السياق نفسه، أعاد صياغة مواقعه على الشبكة العنكبوتية على نحو يتوافق مع المجريات على الأرض. راح يرصد يومياً حصاد أعمال المقاومة، ويتيح للمشاهدين النهل من مكتبات الصور والفيديوات المبوّبة على مواقعه. ولكون المشروع الصاروخي الفلسطيني يمثل تهديداً استراتيجياً لدولة الاحتلال، عمد الإعلام الحربي إلى قلب الشارع الإسرائيلي على قادته، إذ أنتج أخيراً فيديو بعنوان «صواريخ M75 مستمرّة من الورش إلى الميدان»، كما حرص هذا الإعلام على التكتّم على الخسائر البشرية في صفوف المقاومة، تناغماً مع الصمود الشعبي العالي. وأوضحت مصادر «القسّام» لـ«الأخبار» أن الجهاز الإعلامي للمقاومة «يُموّه وجوه المقاومين على الشاشات، ويسهم في انتقاء نوعيّة البزّات العسكرية التي سيطّل بها المقاومون على الإعلام، تجنّباً لاصطياد العدوّ أي سقطات قد توقع المقاومون في فخاخها».
على الضفة الأخرى، حاول العدوّ تسويق حربه بأنّها ضد «حماس» فقط بالشراكة مع فضائيات خليجية، لكن الانقضاض على أرواح المدنيين وتدمير بناهم التحتية، فضحا زيف هذه الرواية. وفي ظل ضحالة المعلومات التي ترشح من الميدان بفعل تطبيق الإعلام الإسرائيلي نظرية «حارس البوابة»، ذاب الفارق العميق بين دور المراسل الصحافي والمتحدّث باسم جيش الاحتلال أو المحلل العسكري. نشرت مجلة «سليت» الأميركية قبل فترة تقريراً تؤكّد فيه انعدام أدنى معايير الشفافية والمهنية عند صحافيي العدو خلال الحرب على غزّة، إذ اندفع جلّهم إلى ترداد عبارات مثل «جيش الدفاع الإسرائيلي هو الأقوى»، و«عملية الجرف الصامد ستصمد طويلاً»، و«الآلاف من الأهداف لم تُرصد بعد».
وسط الغياب التام للمعايير المهنيّة، هبّت رياح التغيير على التغطية الغربية للحرب الأخيرة على القطاع. معظم الصحافيين الأجانب كانوا قد واكبوا حربي «الرصاص المصبوب» و«عمود السحاب» السابقتين من فوق التلال الحدودية، وبجانب أرتال الدبابات الإسرائيلية، لذا كانوا يرون الحرب بعين العدوّ فقط. أما اليوم، فقد انقلب المشهد رأساً على عقب، بعدما أضحى كثيرون منهم شهود عيان على المجازر المروّعة بحق الأطفال. مثلاً، كان الصحافي الأميركي تايلر هيكز أوّل من نشر صورة لـ«مجزرة الشاطئ» على تويتر.
كل هذا أسهم في انقشاع الغيمة عن حقيقة العدو، كما أسقط نسبياً استراتيجية أبلسة فصائل المقاومة التي اتبعها الإعلام الإسرائيلي في استمالة الرأي العام الدولي وتهيئته لهذه الحرب كما سعى جاهداً ــ كجزء من الحرب النفسية ــ إلى بناء جدار نفسي فاصل بين المدنيين والمقاومين الغزاويين، عبر استراتيجيتي «لفت الانتباه» و«التبرير». واستعان في ذلك ببعض منابر الإعلام العربي، التي فتحت هواءها لشخصيات صهيونية لتمرير هاتين الاستراتيجيتين المرتبطتين بتصوير الحرب على أنّها مقتصرة على الأنفاق وبعض المدارس والمستشفيات على اعتبارها «أماكن لتخزين الصواريخ، ومراكز لإمداد المقاومة عسكرياً ولوجستياً».
بالتعاون مع الإعلام العربي، حاول إعلام الاحتلال رفع الغطاء الشعبي عن المقاومة عبر إقناع المدنيين بأنّ «حماس» تستخدمهم دروعا بشرية وتستغل منشآتهم لـ«تحقيق مصالحها الفئوية الضيقة». كذلك، حافظ العدوّ على ديمومة حضوره في صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، مخفياً هويّته الحقيقية ومتكّلماً بلسان الفلسطينيين، كما حدث في صفحة «من أجلكِ غزّة» على فايسبوك، التي يُكثّف فيها نشر صور الدمار في غزّة، ويعلّق عليها بالقول إنّ «حماس دمرت حياتنا». غير أنّ هذه الحيلة الإعلامية لم تنطلِ على الغزاويين، الذين غرّدوا على عكس ما يطمح إليه القائمون على تلك الصفحة.

زُوِّد المقاومون
بكاميرات عصرية مثبّتة لتتناسب والعمل الميداني داخل نطاق المعركة



ويبدو أنّ هذه اللعبة ابتُكرت استناداً إلى إحدى أهم توصيات لجنة «فينوغراد» التي أُلفت بعد عدوان تموز 2006 على لبنان وأخذ العبر منه. توصيات قضت بضرورة الغموض والتضليل وفبركة المعلومات للضغط السلبي على عدوّها. لم يتوقّف الإعلام العبري عند هذا الحد، بل استخدم أيضاً استراتيجيتين متعاكستين تمثّلتا في «الصدمة والترويع»، و«التهوين»، محاولاً كسر الفصائل الفلسطينية معنوياً عبر تسليط الضوء على استهداف المدارس والمساجد مقابل تعتيم كامل على الخسائر البشرية والاقتصادية التي مُنيَ بها على يد المقاومة، إلا أنّ المعلّق العسكري لصحيفة «إسرائيل اليوم» (اليمينية المتطرّفة)، يواف ليمور، أماط اللثام عن الاستراتيجيتين: «سقوط عدد كبير من القتلى في صفوف جيش الدفاع أربك حسابات دوائر صناع القرار التي كانت تتوقع سقوط عدد أقل بكثير من الضحايا». على خطٍ موازٍ، أدرك العدو ثقل السوشال ميديا في الحشد لهذه المعركة المفصليّة في تاريخه، وخصوصاً بعدما ضعف دور فلترة المعلومات من خلال مكتب تحريري مؤدلج فيما بات تويتر المصدر الذي تُستقى منه المعلومات مباشرةً. ولم يفلح العدو في استثمار المعلومات التي ينشرها بعدما خلت تغريداته من صور توثيقية لعمليات قتل مدنييه وفقاً لادعاءاته.
المشهد كان مختلفاً تماماً عند الجمهور الفلسطيني ومؤيديه الذين أرفقوا المعلومات بصور ورسوم توضيحية تُضفي الصدقيّة الكاملة عليها. وبذلك، اشتعلت حرب الترميز بين الفلسطينيين الذين حاولوا شرح الواقع باقتضاب وتوضيح أبعاده، وبين الصهاينة الذين اختلقوا القصص للتعمية على جرائم الحرب، لتكون النتيجة لمصلحة الفلسطينيين الذين حصدوا أكثر من 14 مليون تغريدة مقابل أقل من مليون للعدوّ.




«الجزيرة» تلعب على الحبلين

اختارت «الجزيرة» خندق المقاومة في العدوان الإسرائيلي الأخير بعد تراجع أسهمها في الشارع العربي منذ «الربيع العربي»، لكنها «وسّعت صدرها» للإنصات إلى «الرأي الآخر» الصهيوني. أخيراً، فتحت عدسة الفضائية القطرية على أنفاق «كتائب القسام». قام مراسلها في غزّة تامر المسحال بجولة ميدانية داخلها، وأعاد صوغها في تقرير صحافي مقتضب، مسلّطاً الضوء على رحلة صعبة. رحلة أبطالها 29 مقاوماً بقوا حبيسي جوف الأرض طوال أيام الحرب. خطوة عدّها بعضهم سقطة أمنية واضحة تسهّل على العدوّ كشف الأنفاق الأرضية، فيما رآها آخرون ركيزة أساسية في تدعيم الحرب النفسية على العدوّ ونفي زعمه تدمير معظم الأنفاق خلال معركته البرية على القطاع.