كان هيكل أشياءً كثيرة. لا ريب في أنَّه كان واحداً من الإعلاميين القلائل الذين نقلوا حرفة الإعلامي من مكانٍ إلى آخر: مراسل، فصحافي، فكاتب مقالة، فرئيس تحرير، فمستشار، فوزير، وأخيراً موجّه لسياسات دول. هكذا كان ببساطة، علماً مختلفاً عما عداه، ولعلّه تفوّق على كثيرين من مجايليه أو معاصريه ممن اعتبروا عظماء.
كان الرجل «رئاسياً» بكل ما تحويه الكلمة من معنى. ربما كان الصحافي العربي الأوّل (والوحيد) الذي امتلك ناصية العلاقة مع رؤساء بلاده (عبد الناصر، السادات، مبارك، السيسي) محافظاً على علاقة "الند/ الصديق" بدلاً من علاقة "التابع" المعتادة. كتب خطاباتهم، أرّخ لكلماتهم، حتى إنّ بعض المفاصل التاريخية الكبرى التي "دمغت" عصراً بأكمله، كان جزءاً وشريكاً فيها. مثلاً، هو الذي كتب خطاب التنحي الشهير للرئيس جمال عبد الناصر (بعد هزيمة الـ 1967) الذي قال عنه: «أرهقتني سطوره أكثر من أي شيء آخر كتبته من قبل، وظننت أنني حفظت العبارات والألفاظ من كثرة ما راجعتها» (وردت في كتابه «الانفجار»). علاقته بعبد الناصر جعلته يحتل تلك المكانة البارزة في العالم العربي، فـ «مصر عبد الناصر» كانت أشبه بمنارةٍ آنذاك؛ وكان الصحافي الأبرز «صديق» عبد الناصر، كما قدّمته مسلسلات وأفلامٌ مصرية وعربية عدّة مثل: «ناصر» لباسل الخطيب (2008)، و«صديق العمر» لعثمان أبو اللبن (2014)، و«ناصر 56» لمحمد فاضل (1996). منح ناصر لهيكل "مصداقيةً" كبرى، من خلال إعطائه مناصب قيادية في كثيرٍ من المؤتمرات واللقاءات. كما قاد وفوداً اعلامية وسياسية كقيادته للوفد المصري الذي ضمّ الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في أول زيارةٍ رسمية إلى الاتحاد السوفياتي. رحل عبد الناصر بعدها، ليأتي أنور السادات. كتب هيكل خطاباتٍ كثيرةٍ للسادات، واتسمت علاقته به بالتجاذبات والتناقضات، فالسادات كان نجماً مسرحياً بكل ما تحويه الكلمة من معنى (أورد هيكل هذه الصفة في كتابه «خريف الغضب»). لذلك، كان طبيعياً أن يرفض رفضاً قاطعاً أن يكون هناك نجمٌ آخر مكانه. لم يكن هيكل نجماً بالمعنى الحقيقي، لكنه كان من «تركة» عبد الناصر، والسادات كان يريد أرضاً «جرداء» سياسياً كي يحكمها. في البداية، كان بحاجةٍ بالغة لهيكل، فهو صوت عبد الناصر(هو «حرر» أول كتاب لعبد الناصر "فلسفة الثورة" في العام 1953) ، وكاتب خطاباته في مرحلةٍ ما. لذلك أراد السادات أن يكون الخطاب هو نفسه في المرحلة الأولى، فاستعان بهيكل الذي لبّى النداء سريعاً. لكن دوام الحال من المحال، فالسادات لم يكن يحتمل "نجومية" أحد. لذلك عزل هيكل عن رئاسة تحرير «الأهرام» في العام 1974 (تولاها في 1957) وعيّنه في منصبٍ "هامشيٍ مهين" (مستشار لرئيس الجمهورية) رفضه هيكل بشدة، طالباً أن يعود للكتابة. لكن السادات رفض "الرفض"، وبقي الأمر معلقاً لفترةٍ حتى اعتقاله عام 1981 (لكن الاعتقال لم يطل كثيراً). ويقال إنّ السادات كان يريد "تحجيم" الأستاذ من خلال كل ذلك؛ فرد هيكل عليه (ولو بعد حين إذ طبع الكتاب في العام 1988) بكتابه «خريف الغضب» الذي كان أوّل كتابٍ يتناول سبب وصول الحال في عصر السادات إلى هذه النهاية المأساوية. عصر مبارك لم يكن بعيداً عن "مرحلة السادات" بالنسبة إلى هيكل، رغم أنه كان "صديقاً" للنظام، ولو أنّه اعترض كثيراً على "متلازمة التوريث" إبان عصر مبارك، لا لأنه ضدها، بل لأنه اعتبر أن "أولاد مبارك ليسوا جديرين بحكم مصر". كان مبارك يلتقي به "مراراً" ويستمع لنصائحه وآرائه بشكلٍ دوري، إلا أنَّ "الريس الضحوك" (كما كان يحلو لكثيرين تسميته) لم يكن يأخذ بها كثيراً، إذ كان يفضّل مستشاريه "الاقتصاديين"، ما دفع هيكل إلى التوجّه عربياً، فيمّم شطر قطر، وسكن قناة "الجزيرة" حيث قدّم برنامجه "مع هيكل" باللهجة العامية المصرية لسنوات، وبقي هناك حتى ثورة 25 يناير 2011. ابتعد هيكل عن "الصخب" في تصريحاته إبان الثورة (وحتى بعدها)، لكنه كان "ذكياً" و"مبهماً" في آنٍ كعادته. أشار إلى أنَّ على «السيسي أن يثور على نظامه"، من دون أن ينفي ذلك تأكيده مراراً على «ترشيح» السيسي كرئيس لمصر. كان هيكل يجيد حرفة "الكلام"؛ إذ كانت لديه القدرة على التحدّث في قضية ما لساعاتٍ، من دون أن يكون له موقفٌ واضحٌ منها (يمكن مراجعة حلقته عن القضية الفلسطينية على قناة «الجزيرة» كي يفهم المقصد). يضاف إلى ذلك أنّه كان يعرف «كيف يوجع الرؤساء» وكيف «يداويهم»؛ مع أنّه قلما أوجع أحدهم.